نهلة الشهالعند صدور قرار القاضي الدولي بإطلاق الضباط الأربعة، حدث زلزال. ينبغي الإسراع في القول إنه زلزال على قياس لبنان فحسب. وليس في ذلك انتقاص من أهمية الواقعة، ولكنه تعيين ضروري لدائرتها بغية توضيح ما نناقش. هناك، ولا شك، تبعات إقليمية ودولية للقرار، ولكن إدراكها يخص دوائر محددة من السياسيين ومن يقال لهم صناع القرار. فحسب! كي لا يستمر اللبنانيون، على اختلاف مشاربهم، في الاعتقاد بأنهم «عاجقين الكون».
يومها إذن، راحت التقديرات تضرب أخماساً بأسداس، وتحاول تخمين مقدار الربح الذي يسجله فريق «8 آذار»، (والاسم نسبة إلى اليوم الذي عقد فيه تحالف حزب الله والرئيس بري اجتماعاً مليونياً في الساحة المركزية لبيروت، للتعبير عن موقفه من الأحداث المتعاقبة إثر اغتيال الرئيس الحريري، والتوضيح هو لغير اللبنانيين، الذين لا يفهمون لماذا وكيف يتقاتل اللبنانيون بحدة كبيرة على ما يبدو كأنه تاريخان في شهر واحد!). كما سعت تلك التخمينات إلى قياس انعكاس الحدث سلباً بالنسبة إلى 14 آذار (الائتلاف الذي يقوده تيار الحريري، الذي عاد، كما يدل اسمه، وعقد اجتماعاً بعد أسبوع من الأول، لا يقل مليونيّة، وفي المكان نفسه)، وبالأخص على نتائج الانتخابات النيابية المقبلة في 7 حزيران/ يونيو، حيث المعركة تدور بقسوة على من سيحظى بالأغلبية النيابية.
لأن إطلاق الضباط الكبار بعد ما يقارب أربع سنوات مما ثبت ـــــ بقرار إطلاقهم نفسه، وبالحيثيات المعلنة التي صاحبته ـــــ أنه احتجاز تعسفي لا يستند إلى براهين تبرّره أو تجيزه، يمثّل انهياراً لنظرية جماعة 14 آذار بشأن مسؤولية سوريا المؤكدة، التي قُدمت على أنها قاطعة، في اغتيال الرئيس الحريري، بدليل تواطؤ هؤلاء الضباط في الاغتيال أو في إخفاء معالمه، وهم الذين عُرف عنهم القرب من دمشق أثناء احتلالهم لمناصبهم الأمنية في لبنان.
ذلك هو جوهر الحدث.
ولكنه جوهرٌ سرعان ما بدّده القانون الناظم للأشياء في لبنان، حيث تُترجَم كل حركة، مهما كانت، إلى مادة في الصراع على غلبة تعزّز هيمنة الحرب الأهلية، سواء كانت دموية أو باردة. أما تجاوز هذا أو التخفيف من قوة اشتغاله، فيتطلّب قدراً من الانتباه العالي لكل سلوك ولكيفية تأويله، ورغبة فعلية في عدم الغرف من المعين الجاهز والسهل للاستنفار الطائفي/ السياسي... ولا سيّما حين لا يكون ذلك في مصلحة من يفعل! أو، وبوضوح بارد: كان إطلاق الضباط على هذه الشاكلة فرصة ذهبية لفريق 8 آذار لإيقاع اضطراب في الصف المقابل، لهز قناعات تبدو يقينية، لفك بعض من لحمة جمهوره القائمة على استنفاره الدائم حيال خطر سطوة الفريق الآخر. وبوضوح أكثر برودةً، كانت فرصة لإيقاع بعض اليأس في تخوم معسكره إن لم يكن في نواته الصلبة، بتحييد بعض أعداده إن لم يكن بكسبها.
ولكن هيهات! لكان ذلك صحيحاً لولا قدر غير محسوب من البدائية الطاغية، ومن الافتقار إلى الحس الاستراتيجي في السياسة لمصلحة الآنية المتعجلة، ومن تمكّن منطق الحرب الأهلية حتى النخاع.
إذ ألقى حزب الله بقبضته على المناسبة وراح، منذ اللحظة الأولى لخروج الضباط من باب السجن وحتى هذه اللحظة، أي بلا انقطاع، وبلا كلل ولا ملل، بلا توقف ولا تنفس، يكرر بكل الصيغ التي يمكن تخيلها، أن الحدث يثبت تفاهة الموقف المقابل وهزيمته، وأنّ على أربابه الاعتراف والتسليم. بل لا بد من محاسبة القضاة اللبنانيين الذين سبّبوا إيقاع الاحتجاز واستمراره، وتجريم المسؤولين الذين ضغطوا عليهم أو زيّنوا لهم هذا المسار، والسؤال عن الكذب الممارس، والشماتة بانكشافه، وطلب وضع كل النقاط على كل الحروف... ومن فرط التأكيد والتشديد والتفسير، يختفي التفاعل المحتمل للحدث، وإمكان تركه يطرح ثماره. وعوض ذلك، يلد لدى الجهة المقابلة رد فعل أقرب إلى غريزة البقاء، يجعلها تتماسك ولو على... الباطل!
الباطل هنا ـــــ أي إعادة تجديد الاستقطاب الطائفي/ السياسي وحالة الانشطار العمودي القائمة في البلد ـــــ متقاسَم بالتساوي. فوفق المنطق العشائري الرث هذا، (حيث هي «عشائر» مستجدة، رجراجة، هجينة، وبلا أعراف)، لا يهم من هو على صواب. ومن زحمة وتعاقب الوقائع، لا يعود حتى يُعرف من هو البادئ الأظلم.
وهكذا راح معنى إطلاق الضباط من يد الفريق الذي كان يفترض به تثميره، بل انقلب إلى ضده وطرح نقيض ما كان يحمل من إمكانات. هذا إذا حكّمنا منطق الحساب السياسي والانتخابي من ضمن أرضية الصراع على تعديل خط الانشطار العمودي نفسه، إزاحته من مكانه ولو قليلاً لكسب مواقع لدى الخصوم أو لفرط بعض عقدهم. ولم نتطرق بعد إلى الانقلاب على منطق هذا الانشطار ومغادرته نحو آفاق أخرى، يحمل حزب الله ـــــ يفترض به ــــــ بذورها، بالقوة إن لم يكن بالفعل: أفق الانتماء إلى قوة ثورية تنخرط في معركة التغيير الشامل...
خسارة على الجهتين!!