الصحبي صمارة *افتتح الباحث المصري المتخصّص في الشؤون الإسلامية حسام تمام مقاله المنشور في «الأخبار» بتاريخ 21 نيسان / أبريل والمعنون بـ «عن تونس ومعاناة شعبها» بنكتة رأى فيها أن أهل تونس اقتصروا من أركان الإسلام الخمسة على الشهادة. وذلك في صيغة ساخرة لا تليق بخطاب صدر عن باحث أكاديمي كان يفترض به أن يكون جديّاً في تناوله المسائل الفكرية والحضارية.
الشهادة في الإسلام هي الركن الأساسي الذي يمكن به التحوّل من معتقد آخر لولوج الإسلام، ولكن قناعات صاحب المقال لا ترى في الإسلام الدين الذي غيّر من تاريخ البشرية وأسهم إسهاماً ريادياً في تقدم الإنسانية جمعاء بقدر ما تنظر إليه مطيّة لتجميع الناس، وبلوغ السلطة، وهو التصوّر المتغيّر في تفاصيله، ولكن جوهره واحد.
إنه الإسلام السياسي الذي يحاول جاهداً التقهقر بمكتسبات الإنسانية من ديموقراطية ومواطَنة ليضعها في مرتبة البدعة والتغريب، ضارباً عرض الحائط بالرأي الآخر، وبالشورى، والعدل والتسامح والمحبة والإخاء الإنساني، في تعسّف على التاريخ والمياتاريخ في الوقت نفسه. لم يرسُ المقال على أرض ثابتة حتى يسمح للمتلقّي بإنجاز قراءة جدية وتفاعلية، بل شطح هنا وهناك في تعنّت نفسي لفرض إرباكات على القارئ، ولكنها لم تؤت أُكلها لفقدان المقال المنطق التأسيسي الذي يراهن على الفكرة، وانحسر دوره على التطواف بين الغثّ والسمين. فكان مجرد تداعٍ نفسي لا رؤية واضحة ترتقي به إلى مستوى الخطاب.
دوافع صاحب المقال تُفهم في سياق الأحداث التي تشهدها المنطقة وتشهدها تونس بالتحديد، والتي تعيش هذا العام على نشوة تظاهرة «القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية». فقد بنى صاحب المقال مواقفه تحت تأثير رفض ضمني للإسلام المعتدل الذي تعدّ تونس أهم بلد يسعى تأسيساً وبناءً إلى جعله الوجه الحقيقي للإسلام، لا وجهه الطالباني ولا الإخواني ولا التكفيري الذي يسوّق لإسلام الدمار في قلب جوهري لحقيقة الرسالة السماوية وما أسّسته من قيم. ذلك الوجه الذي يبرّر للغرب العودة في بزّته العسكرية رافعاً راية حرب صليبية أو حرب يهودية على المجتمعات المسلمة التي لا تزال مثقلة بمخلّفات قرون من الاستعمار جراء فقدانها بوصلة العقل طيلة قرون، وانحسارها في ظلمات خلافة متحجّرة تناثرت أشلاؤها تحت أقدام الغزاة.
صديقنا المتشنّج على حالة الإسلام في تونس، الذي يدافع عن أطروحة ممجوجة أساسها معلومات سماعية لا معاينة ميدانية فيها ولا رصد موضوعياً للواقع ظلّ وفياً للبيانات الحادّة والخطابات السلفية التي تستعير منظار فلول الوهابية، متوهّمة أن بإمكان هذا المنظار الحَجْري أن يؤسس لمرحلة حضارية عويصة يعيشها العالم. مرحلة أصبح مطروحاً فيها على الهوية العربية والمجتمعات المسلمة أن تقف فيها على أرض متوازنة لا تتحرك بملامح تسونامية للتغيير بل تساهم في تشكيل حوار حضاري مبني على احترام الثقافات بعضها لبعض لا عن تنطّعات تقرأ التاريخ والواقع المتحرّكَين دائماً، والمتطورَين وفق قوالب جامدة مكانها المتاحف الأثرية ومجالها الأركيولوجيا.
لقد سقط الكاتب للأسف في تمجيد الحقبة الاستعمارية على صرح الدولة الحديثة في تونس، ولكن عذر الكاتب أنه يتحدث عن أشياء لم يعاينها بل هو يجهلها تماماً أو هو يتجاهلها. ورغم أن هذا الموقف لا يليق حتى بأنصار فكر تدمير الحضارات فإنه كشف عن الضعف الفادح الذي يعانيه منظّرو الدولة التيوقراطية وباحثوها.
من المستغرب حقاً الحديث عن منع المحجّبات في تونس فيما تضم الفضاءات العمومية نسبة كبيرة من المرتديات. وإن كنّا لا ننكر أن جدلاً فكرياً طفا على سطح الساحة الثقافية والسياسية في تونس حول المسألة، ولكنه انتهى إلى احترام حرية اللباس كمبدأ إنساني، ولم يعرّج بنا إلى فرض الحجاب على المرأة أو تعريضها للرجم كما يريد صديقنا.
رفضت تونس بعد الاستقلال أداء دور التلميذ المنبهر أمام مدرستَي لينينغراد وواشنطن، ودافعت عن هويتها محترمة المنظومة الثقافية التي يتحرك المجتمع داخلها، ويتمثل الشعب طموحاته في إطارها. وإذا كانت مدرسة الغنوشي قد عجزت عن استيعاب حركة المجتمع التونسية فذلك شأنها، أما إذا كان صاحب النص من أنصار تفجير المطاعم والمؤسسات فليس له في تونس الحديثة مكان يستظل فيه بعباءة «الملا عمر» أو مطار لتدريب تلامذة بن لادن.
تونس التي كانت ولا تزال أحد أهم مراكز الفكر الإسلامي المتنوِّر منذ إبراهيم بن الأغلب وعُقْبَة بن نافع إلى الشيخ بن عاشور لم تفرّط في تاريخها الذي يعدُّ أحد أهم عناصر عراقتها وتمدّنها، ولم تفرض على مواطنيها إمامة الطغاة ولا تحجّر المهووسين.
الديموقراطية في تونس أذكى بكثير من حصان طروادة فهي لا تسمح بأن تكون غطاءً لمشروع تقهقري يهدي الموت إلى شعب ضحّى بدماء أبنائه من أجل دحر الاستعمار ويعيش إصراراً حقيقياً ليجعل طموحاته في التقدم والحداثة حقيقةً وواقعاً معيشاً. هذه الديموقراطية هي التي أنقذت شعب تونس من مواجهات دموية مع المتطرفين، وهي التي تضمن اليوم لنسائها السير في الشوارع دون خوف من حرق وجوههن الجميلة بماء النار، أو سبيهنّ لخدمة أمير الجماعة. وهي نفسها الديموقراطية التي جعلت التعليم والمعرفة أداة للنهوض، وخصّصت ثلث ميزانيتها لهذا الرهان.
في شوارع تونس يمكنك أن تصرخ بأعلى صوتك لتقول إنك مستقلّ الإرادة والتفكير عن حزب الأغلبية وعن المتطرفين، أما في أغلب الشوارع العربية، فإنك قد تفقد لسانك قبل أن تنهي صرختك.
هل تطوّر باحثنا المحترم من مختص في الجماعات الإسلامية إلى منظّر لفرض حكم المتطرفين على المجتمعات الآمنة؟ هل تحوّل دور الباحثين إلى لسان دفاع عمَّن تجاوز قانون البلاد ودستورها؟ العناصر الذين اختاروا العواصم الأوروبية بعد فشل مشروع حركة النهضة الذي يخالف القانون في شكله، ويهدّد الدولة المدنية الحديثة في مضمونها هم مخالفون للقانون ولكن رغم ذلك فإن أبواب تونس تظل مفتوحة لأبنائها إذا ما اهتدوا إلى خيار صائب في احترام قانون البلاد، وتخلّوا عن أفكار الهدم والتخريب.

* كاتب تونسي