ناهض حتر *أنبّه، ابتداءً، إلى أنّ طرح هذا السؤال ليس افتراضياً أو سجالياً. فقد أصبح مطروحاً على رأس جدول الأعمال في الأردن، بالنظر إلى تطور الموقف السياسي الأردني الرسمي نحو الاستعداد لحسم مسألة الدمج السياسي للاجئين والنازحين في البنية الأردنية على أساس المحاصصة في مملكة ثنائية الوطنية، وذلك في إطار تسوية مع إسرائيل تكفل وقف تهديدها المستمر للأردن، الأمر الذي يتحقق، من وجهة نظر عمان، بقيام دولة فلسطينية عازلة، بضمانات سياسية وأمنية أميركية، وبرنامج إنماء بتمويل دولي ـــــ عربي.
وصولاً إلى تلك اللحظة، تتمظهر مواقف الحركة الوطنية الأردنية ومواقعها على مستويات عدة، أوّلها بالسلب، وذلك بانكشاف المواقف الملتبسة للزعامات البيروقراطية الأردنية التقليدية التي طالما أظهرت، للحصول على دعم شعبي، ميولاً صريحة أو جزئية أو ضمنية نحو «الوطنية الأردنية».
إن سقوط صدقية تلك الزعامات الانتهازية، المرتبطة بألف خيط وخيط بالرأسمالية الكمبرادورية، سيخلي مواقعها لقيادات وطنية شعبية بإمكانها بلورة الحركة وتطويرها داخل بنى الدولة وفي المجتمع. وثاني تلك المستويات هو التناقض الموضوعي الحاصل بين الحركة الوطنية والسياسات الرسمية. فالهوّة بينهما تتسع إلى درجة أننا نستطيع القول إن الدبلوماسية الأردنية ومشاريعها وحركتها لا تعبر، بأي قدر، عن توجهات القواعد الاجتماعية الشعبية والمتوسطة. إنها دبلوماسية معلقة بالهواء، ولا تملك، بالفعل، إمكان تقديم تنازلات تتعلق بالمستقبل السياسي للبلاد. وخصوصاً أن نخبة الحكم من برلمانيين ووزراء ومسؤولين وإعلاميين، باستثناءات محدودة، ليس لها مضمون تمثيلي فعلي. وهي تستطيع اللعب في الوقت الضائع، ولكنها عاجزة عن تمرير مشروع سياسي يمس الثوابت الوطنية. ومثالاً، لاحظنا مدى السهولة التي استطاعت بها قوى معارضة محدودة إسقاط «مشروع الأقاليم» الذي احتشدت لترويجه، والدفاع عنه، وإبداء الاستعداد لتنفيذه، نخبة الحكم بكاملها تقريباً.
وقد جاء القرار المفاجئ للملك عبد الله الثاني بطيّ ذلك المشروع بمثابة صفعة لتلك النخبة بينما هي في لحظة الذروة الهجومية من معركة تسويق مشروع تفكيك البلد وهويته إلى ثلاثة أقاليم إدارية ـــــ سياسية، تحضيراً للتوطين السياسي. ولا أعرف بعد كيف يمكن الاعتماد على نخبة جُرّدت من صدقيتها على هذا النحو المُذلّ، لقيادة مشروع سياسي أكبر يقوم على المحاصصة الديموغرافية ـــــ السياسية في البلد!
يغري امتلاك السلطات الواسعة بحرية أصحابها لاقتراح مشاريع كبرى لإعادة تركيب المجتمعات. ولكن يظهر دائماً أن المجتمعات أقوى من السلطات مهما كان حجمها، عندما يتعلق الأمر بشؤون مصيرية. لا يزال الوعي الوطني الأردني، لاعتبارات عديدة لا مجال لتعدادها هنا، ينظر إلى الملكية كخيار. التطور الحاصل أنه يريدها الآن ملكية دستوية (على النمط الغربي) كإطار آمن للحراك الوطني، من دون أن يعني ذلك أنه مع الخيارات السياسية الرسمية. وهو يتسامح مع هذه السياسات ما دامت تقع في باب المناورات، أو أنها لا تمس التعاقد على صيغة الدولة الوطنية والهوية.
ولا أريد الاسترسال في هذه النقطة، لكن حسبي أن أنبه النخب الفلسطينية إلى أن تجاهل الحركة الوطنية الأردنية، والبحث عن صفقات سياسية، هو مجرد وهم بلا طائل. وعلى هذه النخب أن تراجع مواقفها وتكف عن استعداء الوطنيين الأردنيين، ووصفهم ظلماً «بالعنصرية»، وإدارة الظهر لرؤاهم وطموحاتهم ومطالبهم المشروعة.
لا بد لأي فلسطيني أن يعترف بنزاهة بأن المجتمع الأردني هو المجتمع العربي الذي خلا كلياً من أية عنصرية مسيسة تجاه الفلسطينيين، وأنهم يحظون في الأردن ليس فقط بحقوق المواطنة، بل أيضاً بروح التضامن والشراكة الأخوية. يعود ذلك بالطبع، إلى الوجدان العربي الصافي للمجتمع الأردني وبناه العشائرية، لكنه يعود، بالتأكيد، إلى عقدة ذنب تاريخية. فالمجتمع الأردني لم يقاوم، بصورة جادة وشاملة وناجعة، التدخل الكارثيّ للنظام الأردني في فلسطين، وحرمان الشعب الفلسطيني من تأسيس دولته الوطنية بعد الـ48، والإصرار على أردنة اللاجئين وأبناء الضفة الغربية، والصراع مع منظمة التحرير على تمثيل الشعب الفلسطيني.
وسيكون على الحركة الوطنية الأردنية أن تقدم اعتذاراً مفصلاً وعلنياً عن عجزها، آنذاك، على إفشال الخطط الرسمية. لكن، ينبغي أيضاً الأخذ بالاعتبار التأثير الضار لهيمنة الوعي القومي لدى الطرفين وقتذاك، ما أتاح تمرير مشروع ضم الضفة الغربية بوصفه حدثاً وحدويّاً.
وبوصفها الممثل التاريخي، لا القانوني، لمجتمع ودولة، تجد الحركة الوطنية الأردنية نفسها ملزمة بتسديد فواتير سياسات النظام، لكن بالاستعداد لتصحيح المسار التاريخي للشراكة النضالية بين الشعبين في مواجهة العدو المشترك، إسرائيل، وليس في صفقة توطين ومحاصصة مع إسرائيل.
إن مصيرنا المشترك ووحدتنا الحقيقية لا يكمنان في توزيع الحصص البرلمانية والحكومية والأمنية، ولا يكمنان في تهميش الأغلبية الأردنية في المشروع الكمبرادوري لليبرالية الجديدة، بل يكمنان في إحياء خيار المقاومة.
وخيار المقاومة على كل حال، مفروض على الفلسطينيين والأردنيين، لكي يحصل الأوائل على حقوقهم في فلسطين، ولكي يحتفظ الأخيرون بدولتهم الوطنية وتعزيز استقلالها وتقدمها. نحن نواجه قوة عاتية، فاشية، ومصممة على ابتلاع فلسطين كلها وطرد المزيد من الفلسطينيين وإلغاء الدولة الأردنية، لتوفير سياق لا بد منه للخلاص من تبعات القضية الفلسطينية. والمسألة، بالنسبة للمشروع الصهيوني، ليست خاضعة للتسويات. قد يحدث ذلك مع سوريا ولبنان، كما حدث مع مصر، ولكن، بالنسبة للأردن وفلسطين، الأمر مختلف. فمَن يحسب أن إسرائيل ستسمح ببناء دولة فلسطينية مستقلة قادرة على إعادة تكوين المجتمع الفلسطيني، وبعودة اللاجئين، كمن يحسب أن الإسرائيليين مستعدون، بالضغوط الأميركية، لهزيمة تاريخية على مائدة مفاوضات! إنها معركة حياة أو موت بالنسبة للصهيونية. وهي كذلك بالنسبة لنا، ولم يعد ممكناً أن نؤجل قدرنا ذاك. وهذا القَدر الكفاحي، لا «العنصرية»، هو الذي يؤجج الحركة الوطنية الأردنية الآن. وسأوجز واحداً من أهم التطورات الدالة. فباستثناء نخبة الحكم المتحالفة مع السلطة الفلسطينية وبعض «اليساريين» الذين يقرأون الصراع كمواجهة بين العلمانية والإسلام السياسيّ، تحظى حركة «حماس» بما يشبه التأييد الجماعي من الأردنيين. ومع ذلك، فإن حركة الإخوان المسلمين تكاد تنشق تحت تأثير تفاعلات الصراع بين تيار وطني أردني يؤيد المقاومة من موقع أردني مستقل، وعلى أساس برنامج محلي، وتيار «حمساوي» يسلك وفقاً لاحتياجاتها السياسية في الأردن.
لا تريد الحركة الوطنية الأردنية طرد أي فلسطيني من الأردن، ولا الإضرار بالحقوق الاجتماعية والمدنية، حتى بالنسبة لغير المجنسين، ولا سحب الجنسية الأردنية، ولكنها تريد التأكيد أن جنسية الفلسطيني وحقوقه في الأردن هي إجراء داخلي غير سياسي ومؤقت، وليست بديلاً عن الجنسية والحقوق السياسية في فلسطين، وأنها ـــــ الجنسية الأردنية ـــــ لا تمثل حلاً لقضية اللاجئين والنازحين والمهجرين الفلسطينيين وهويتهم الوطنية، وخصوصاً أنها لا يمكن أن تكون جزءاً من تسوية مع إسرائيل.
تصاعُد الصراع بين مشروعي التصفية والمقاومة في فلسطين، وتصاعُد الصراع الاجتماعي الوطني في الأردن، لم يعودا يسمحان لفلسطينيي الأردن بالمزيد من الاسترخاء والانسحاب من العمل النضالي أو الاكتفاء بالمعارضة السلبية. فالخيار التاريخي يقع، وهو لا يرحم، بين مشروع المحاصصة ضد الشقيق الأردني ومشروع العودة ضد العدو الإسرائيلي، وبين الانضواء تحت راية الكمبرادور، وإنْ يكن فلسطينياً، في ظل المشروع الإسرائيلي، وبين التحالف مع الحركة الوطنية الأردنية في ظل مشروع المقاومة: بين القبول بالوطن البديل أو الإصرار على تحرير الوطن.
* كاتب وصحافي أردني