خريطة القوى الطارئة تتصدّرها دول عالمثالثيّة
محمد برو
لقد تورّطت الولايات المتحدة الأميركية في حروب لا تزال تديرها هنا وهناك. وأثارت حفيظة العديد من الدول التي لا ترى فيها إلا إمبراطورية للهيمنة والشر. مما دفع العديد منها لإنشاء تحالفات جديدة من شأنها أن تخلخل الصورة التي تحرص الولايات المتحدة على ترسيخها من أنها راعية للسلام العالمي، وحامية حمى الحرية في مواجهة الإرهاب، وأنها القطب الأوحد الذي ينبغي للعالم أن يدور في فلكه.
ومع خروج جورج بوش الابن من البيت الأبيض وحلول باراك أوباما مكانه، يُنتظر من الإدارة الجديدة إعادة النظر إلى العالم وفق منظور يتّسع لقوى جديدة بدأت تظهر فعاليتها على المسرح الدولي.
في رحلة مشوّقة يعبر بنا باراج خانا، الباحث الأميركي المتخصّص بالجغرافيا السياسية، المناطق المحورية في شرق أوروبا، وأواسط آسيا وشرقها، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، ليخلص إلى رؤيته الجديدة، الواعدة بنهاية التفرد لنفوذ الإمبراطورية الأميركية التي حرصت على إقامة عالم أحادي القطب، مستفيدة من غياب الاتحاد السوفياتي.
وبحسب خانا، فإن العالم اليوم يقف أمام ثلاث قوى تتنافس على استقطاب مقدّراته وقراراته واقتصاده، وتسعى بالتالي إلى تقاسم مناطق نفوذه: الصين، من خلال قيادتها منظمة شنغهاي للتعاون، وامتداداتها في وسط آسيا، ومن يتحالف معها من دول أميركا اللاتينية. والاتحاد الأوروبي الذي بدأت تتحدّد ملامحه وأدواره الدولية، والذي سئمت شعوبه أن تبقى تابعة لقوة الجذب الأميركية ومرتهنة لحروبها ومغامراتها العسكرية. والولايات المتحدة ستبقى ممسكة بأهم مفاتيح الاقتصاد العالمي، ومتحكمة في نفطه، وفي ترسانتها الموزعة في أصقاع ممتدة من هذا العالم الصغير.
هناك إذاً تنامٍ ملحوظ لقوة جديدة يمكن أن نسميها دول العالم الثاني، وهي تربو على المئة دولة. كما تفعل العولمة فعلها في إنهاء بقايا مبدأ مونرو الذي جعل من أميركا اللاتينية حديقة خلفية ومستودعاً للموارد تحتكره الولايات المتحدة. فنحن نشهد اليوم حضوراً ملحوظاً لدول عديدة من أميركا اللاتينية لم نكن نلحظه من قبل. فقد استطاع هوغو تشافيز، من خلال تبنيه تسخير الموارد النفطية للنهوض بحياة الفئات المهمّشة في بلاده ومحاربة الفقر، أن يضع في يمناه الورقة الأوروبية، عبر إتاحته للاتحاد الأوروبي أن يكون أكبر مستثمر في قطاع البترول والخدمات في بلاده. وهو يسعى إلى أن يمسك بيسراه بالورقة الصينية، وذلك من خلال نهم بكين المتنامي للنفط وفتح أسواق لها في أميركا اللاتينية. وبذا يكون قد نجح في إخراج بلاده من القبضة الأميركية. وستحذو البرازيل والأرجنتين حذوه، لتظهر بالتالي في أميركا اللاتينية قوة محورية تؤخذ بالحسبان في التحالفات الدولية الحديثة.
من اللافت للنظر أن خانا لا يرى دوراً ريادياً لروسيا في هذا المشهد الجديد. ولعل السبب هو اتساع رقعتها، وتشتّت شعوبها عبر قوميات وثقافات وتوجهات متعددة، يصعب نظْمهم في دولة واحدة ذات اتجاه محدد. فالاتحاد الأوروبي يستقطب العديد من دول الاتحاد السوفياتي القديم للانضمام إليه. وتسعى الصين لاستقطاب آخر مواز في أواسط آسيا. بينما هو يرى مستقبلاً صاعداً يمكن أن تضطلع به ماليزيا بما تملكه من اقتصاد متنوع ومؤسس على بنية تحتية متينة، إضافةً إلى اعتمادها على ثروتها النفطية، والاستثمارات الأوروبية التي تمثّل كتلة كبيرة فيها.
لقد كتب داروين: «ليس الأقوى من كل نوع هو الذي يبقى، ولا الأذكى، بل الأكثر تأقلماً مع التغيير»، وهو الدرس الذي لم تعه أميركا. فهي في سطوة غطرستها تفقد أهم الفرص التي تمكّنها من التكيف مع التحولات الخطيرة التي تطرأ على العالم.
أما فاسلاف هافل، فأشار ذات مرة إلى أن «النجاح في السياسة هو عبارة عن مزيج من البراعة والذوق الرفيع»، فكيف لنا أن ننظر اليوم إلى سوقية السياسة الأميركية، حيث تتبدّى الديموقراطية الأميركية في الحيز النظري أكثر مما تتبدّى في حيز التطبيق.
وبالرغم من أن العالم الجديد يحوي العديد من العملات، فإن ثلاث عملات هي التي ستقع محط الاهتمام والترقب، وهي الدولار الأميركي واليورو واليوان الصيني.
يختم باراج خانا فصوله الثلاثين، بتوجيه اللوم إلى التردي الأخلاقي للسياسة الأميركية وبُعدها عن روح الحرية وسيادة القانون، وارتهانها للجشع الإمبراطوري، أنّى كانت ضرائبه الداخلية والخارجية. ولم يعد الأميركيون متأكدين من أن تكاليف وعواقب الانخراط في الشأن العالمي تستحق هذا العناء. لقد أصبحوا يخافون من إدراج شركاتهم في نيويورك، ويفضّلون عليها لندن وهونغ كونغ. وفي الخارج استطاع جورج بوش الابن أن يرسم صورة غاية في الرداءة للهيمنة الأميركية وأثرها الداخلي والخارجي، صورة أسهبت في عرضها مادلين أولبرايت في كتابها «الجبروت والجبار»، وهي تتفق مع روبن كوك في خطاب استقالته: «إن التاريخ سيندهش من سوء الحسابات الدبلوماسية التي أعقبت الحادي عشر من أيلول وسبقت غزو العراق».
* باحث سوري


العنوان الأصلي
العالم الثاني: السلطة والسطوة في النظام العالمي الجديد

الكاتب
باراج خانا

الناشر
الدار العربية للعلوم