محمد نايف طالب من مشمش قضاء عكار، وحسن جعفر الحاج حسين من الهرمل. ترك الاثنان مسقطي رأسيهما لضيق العيش. عاد الأول ميتاً إلى قريته منذ شهر، فيما يمضي الثاني ما بقي من العمر خائفاً من مستقبل قد يرمي به على قارعة الطريق. الأول عمل ناطوراً 30 عاماً في معمل لتكرير الملح قرب شكا، وجاره الحاج حسين ما زال يمارس المهنة نفسها هناك
عكار ــ روبير عبد الله
بين معمل نبتون لتكرير الملح في الحريشة ومنزل معزول وسط تلة أحمد، مساحة فارغة إلا من خيم ثلاث، يسكنها منذ مدة عدد من البدو الرحّل الذين يسمَّون «ريّاساً» احتراماً و«نَوَراً» تداولاً. في ذلك المنزل المعزول تعيش عائلة فقيرة تعولها رهيجة عبدو الحاج حسين التي تعمل في تنظيف البيوت والمطاعم بمعاش شهري قدره 350 ألف ليرة بعدما مرض زوجها حسن جعفر الحاج حسين، فلم يبق له إلا العمل ناطوراً قرب منزله، يحرس كميات من الزعتر والزوباع، يبقيها أحد التجار هناك لتجف، قبل بيعها في السوق.
يتحدث حسن وبجانبه بناته وابنه الوحيد. يتطلع إليهم بحسرة، فهو يلتقيهم مرة كل أسبوعين، لأنهم يعيشون في ميتم العطاء الخيري في طرابلس الميناء. من هناك يتوجهون إلى مدارسهم. زهراء، جنى وهبة يذهبن إلى مدرسة الكرامة التابعة للجنة العناية بتعليم أبناء المسلمين المحتاجين. أما زهير وإيمان، فيذهبان إلى مدرستي النصر والتهذيبية المجانيتين. ويسرد حسن ماضيه في العمل، فيقول إنه كان يشتغل في معمل سلعاتا منذ أكثر من عشرين سنة، لكنه هرب إلى طرابلس بسبب الحرب الأهلية وعمل هناك في منطقة العيرونية على منشار للحجارة، ثم عاد إلى الحريشة ليسكن في تلة أحمد. كان يعرض «بسطة» دخان على الطريق البحري، لكن مع الأيام تناقص الدخل ولم تعد البسطة تجدي. بين العبارة والأخرى يمرر حسن، وهو يسرد واقع الحال، جملة اعتراضية: «بدنا نقول الصراحة». لعلّه يرفض تلك الصراحة في باطن عقله باعتباره ابن عشيرة يأبى الذل والهوان، إذ طالما أنجبت جرود الهرمل ووادي فيسان من هم أقوى وأصلب وأشد بأساً من قهر الطبيعة وتسلطها، ثم يستطرد قائلاً: «من ضيقي أجّرت قطعة الأرض الصغيرة أمام بيتي، ليستخدمها أحدهم، بعدما نصّبني ناطوراً عليها». ويشكو حسن حرمانه من رؤية أولاده إلا مرتين في الشهر، فقد أسكنهم الميتم لأنه لا قدرة له على دفع أجرة الأوتوكار الذي لا يمكنه أصلاً بلوغ البيت لبعده عن الطريق. زوجة حسن تذهب لتنظيف البيوت يومياً، فيبقى وحده طوال النهار، لا تؤنس وحشته إلا قرقعة طبول «الرياس»، فهم برأيه أفضل حالاً منه.
بوفاة محمد نايف طالب، خسر حسن الصديق الوحيد الذي لم يتعرف إلى غيره منذ سنين بعيدة. كان محمد طالب يعمل ناطوراً في معمل تكرير الملح على بعد 700 متر من منزل حسن الحاج حسين. لم يختلف ابن الهرمل وابن عكار على موضوع السيادة والاستقلال، ولا بالنسبة إلى الثلث المعطل، فحدود الوطن بالنسبة إلى كليهما تلة أحمد.
محمد لم يبدّل مكان إقامته كثيراً، فمنذ أكثر من ثلاثين سنة، يقول ابنه وسيم، كان يعمل ناطوراً في المعمل، بعدما ترك قريته مشمش يافعاً، وكبر وتزوج، ثم أقام مع زوجته والأبناء في غرفتين صغيرتين تابعتين للمعمل، إذ إن راتبه المساوي للحد الأدنى للأجور لا يسمح باستئجار منزل. لقد ترك الوالد بلدة مشمش، على حد تعبير وسيم ونقلاً عن جده، «لأن البكوات أخذوا أرضنا، ولم يتركوا لنا إلا مساحة 400 متر مربع لا تكفي لأي عمل زراعي». ثقل الأيام يبدو على وجه وسيم علامات من الإرهاق والتعب، رغم أنه لم يبلغ الثلاثين من عمره. لكنه، وهو يعمل مساعداً للمراقب الميكانيكي على آلات المصنع، يبقى ثماني ساعات في المعمل، مع أن رِجله لا تسعفه في تحمل «الوقفات» الطويلة، فقد تحطمت وهو صغير إثر حادث على طريق مدرسة أنفه الرسمية قرب الحريشة. بعد الحادث بقي وسيم سنتين يعالجها بالأساليب المحلية المتواضعة، فانتهى الأمر بإعاقة دائمة في رجله اليسرى، وترك المدرسة وهو لم يتجاوز الصف الابتدائي الثاني. وسيم ساخط على هذه الدنيا، لا شك! عامل فقير، والده قضى عمره ناطوراً في المعمل، وهو سيقضيه أجيراً أيضاً هناك. حلمه لا يتجاوز جدران البيت الصغير الذي ورث عن أبيه منحة الإقامة فيه. يتقاضى وسيم من عمله مياوماً في المعمل ما يلامس الحد الأدنى للأجور، إذا كان عدد أيام العمل وافراً. تزوج ورزق طفلاً، يخشى أن يكون مصيره ومستقبله مثل مصير أبيه وجده، لأن الدخل بالكاد يكفي ثمن الخبز والحليب، فكيف الحال يوم يأتي دور المدارس الخاصة وأقساطها.
علاقات وسيم الاجتماعية تكاد تُختصر بجاره وصديق والده، حسن الحاج حسين الذي زوّج أخته لعامر، فأقرب مكان تسمح الإمكانات بزيارته هو بيت أخته في بلدة أنفه المجاورة.
تحجب «عجقة» الريّاس الأقرب إلى منزل وسيم ضجيج الانتخابات وصخبها وما يصاحبها من توترات في تأليف اللوائح. فهو غير معني بقطع الطريق على مفرق برج العرب الذي يؤدي صعوداً نحو مشمش وفنيدق وباقي مناطق الجرد. بالأصل هو لا يكترث بالسياسة والسياسيين، إذ يقول إن أخاه الذي تبيّن أن ابنه مصاب بثقب في قلبه منذ الولادة ويحتاج بالتالي إلى عملية قلب مفتوح، لم يوفّق في استدراج همة أي من النواب أو المرشحين لمساعدته في خفض تكاليف العملية الجراحية.
لم تفلح حملات التضليل والتوتير الطائفي والمذهبي في نزع رباط الألفة والمحبة بين ابن مشمش العكاري وابن عشيرة الحاج حسين في الهرمل. لقد كشف التجاور بالصدفة سكناً ونمط عيش وحقيقة أعند من أن تلويها أوهام زرعها بعض الساسة بغية توليد انقسامات مذهبية وعشائرية، تشتد وتخبو على وقع ما تحتاج إليه مشاريعهم من أنواع الاصطفاف.
ليس الانقسام العشائري والمذهبي في لبنان سمة بنيوية في الاجتماع اللبناني، وليس الفقر والحرمان في عكار والهرمل مطلقاً وشاملاً. صحيح أنه مزمن وقديم، لكن الصحيح أيضاً أن في عكار والهرمل قديماً وحديثاً قصوراً ومتاجر كبيرة ومطاعم فخمة. ولا يتسابق مئات المرشحين والنواب والوزراء والمسؤولين فقط على توفير الخدمات العامة، بل إن البعض غير القليل منهم أبداً هو الوجه الآخر لشقاء الفقير والعامل والمحتاج.


لم لا يعود؟

إذا كان مرض الحاج حسين، السبعيني، قد أقعده، إلا أن «نطارة» البستان الصغير تجعله يحس بأنه ما زال منتجاً. لكن المبلغ الذي يحصّله مهدد هو الآخر، فقد تناهى إليه أن مستأجر الأرض قد يتوقف عن استثمارها. وبذلك يصبح الناطور من دون مورد. أما لماذا لا يعود إلى الهرمل، فيكتفي بالقول بغموض: «ما بقى عندي شي بالضيعة حتى أرجع له».