أخيراً يئس أهالي المخطوفين، فانتقلوا للهجوم دفاعاً عن حقهم في المعرفة. وفي ديكور نصب في الهواء الطلق في حرج بيروت، حيث توجد مقبرة جماعية معترف بها رسمياً، عقدت لجان أهالي المخطوفين والمفقودين مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه إجراءات قانونية اتخذتها تمهيداً للخطوة الكبرى: مقاضاة الدولة «بنتيجة أخطائها الجسيمة المتمثّلة في تنكّرها لحق المعرفة»، وحؤولها دون الكشف عن مصير رعاياها
ضحى شمس
«نعم، قد نكون الآن نمشي فوق تراب بقايا مفقودينا ومخطوفينا. هنا، في حرج بيروت، توجد مقبرة جماعية، هي واحدة من 4 اعترفت بها الدولة في تقرير لجنتها لتقصّي الحقائق عام 2000، إضافة إلى مدافن مار متر، في الأشرفية، ومقبرة الإنكليز في التحويطة والبحر»، هكذا، ردّت رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، على سؤال «الأخبار» في المؤتمر الصحافي الذي عقدته في حرج بيروت ظهر أمس، مع غازي عاد من جمعية سوليد، لإعلان خطوة شديدة الأهمية ببدء إجراءات قانونية تفضي إلى مقاضاة الدولة، وطلب تعويض منها لاستخفافها بهذا الملف، الذي حال دون حصول الأهالي على حقهم في معرفة مصير مفقوديهم.
حالما قالت حلواني ذلك، نظرت سعاد بو مرعي الجالسة إلى جانبي، التي عبق وجهها باحمرار القيظ، إلى قدميها بحركة غريزية، لتزيح بعد ثانية واحدة قدميها جانباً، فيما ضغطت بصورة ابنها المخطوف فوق صدرها، ابن الدولة، الدركي عماد، عضو الفرقة الموسيقية التابعة لقوى الأمن الداخلي، الذي اختفى ذات أيلول عام 1982 مع زميله عمر قوبر، حين كان متوجهاً إلى بكفيا لإحياء مراسم دفن الرئيس المنتخب، والمغتال أيامها بشير الجميل.
قبل موعد المؤتمر، كانت الأمهات القرويات بأغلبهن، قد جلسن تحت شجرة وارفة يستظللن بها من حرارة الشمس، فيما صفّ شباب وشابات جمعية أمم للتوثيق التي ساعدت لوجستياً في التنظيم، كراسي الحضور البلاستيكية البيضاء «في عين الشمس» التي كانت تضرب الرؤوس بأشعتها الحامية.
يستهل غازي عاد ممثل سوليد، الكلام فيؤكد لبعض من سأله من الصحافيين أن اعتصام أهالي المفقودين في خيمتهم أمام الأسكوا لم ينتقل إلى حرج بيروت بل هو باق في خيمته هناك، لتأخذ وداد حلواني الكلام فتتلو بياناً مشتركاً. استند البيان، المتميّز بدقته، إلى تقرير لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين (الصادر بتاريخ 25/7/2000) «التي كانت قد شكّلت بقرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء آنذاك الرئيس سليم الحص (القرار رقم 10/2000 تاريخ 21/1/2000). وقد تضمن هذا التقرير إقراراً واضحاً بالعثور على مقابر جماعية موجودة داخل عدد من المناطق منها مدافن الشهداء في منطقة حرج بيروت ومدافن مار متر في الأشرفية ومدافن الإنكليز في التحويطة وفي البحر». كما أوضح أن لجنة مؤلفة من أطباء شرعيين واختصاصيّين كشفت على هذه المقابر وعاينت الرفات المدفون فيها (دون إشراك ذوي المفقودين).
وبدلاً «من أن تمثّل هذه المعلومات منطلقاً لتحديد مصائر المختفين قسراً عبر نبش هذه المقابر والعمل على تحديد هويات الرفات المدفون فيها وفقاً للمعايير الطبية والعلمية المعمول بها دولياً، استُخدمت لطمس القضية: فوجود المقابر الجماعية على طول لبنان وعرضه يعني أن جميع المفقودين منذ أكثر من 4 سنوات قد ماتوا».
وتابعت حلواني: «هكذا بكل بساطة، وخلافاً لما يجري في العالم كلّه بشأن المفقودين (من دول أميركا اللاتينية إلى العراق والمغرب مروراً بالبوسنة والهرسك)، حيث تُنبش المقابر الجماعية للتعرف إلى هويات الضحايا، فرداً فرداً، بتأنٍّ ومع اللجوء إلى أحدث التقنيات، بما يؤشر إلى احترام الكرامة الإنسانية، رأت اللجنة الرسمية أنّ بإمكانها إنجاز مهمتها عبر خلاصات عامة وفرضيات من نوع: كلهم ماتوا». وتابع البيان إنه بعد انقضاء 34 سنة على الحرب، و9 سنوات على إعلان نتائج تقرير اللجنة الرسمية، و4 سنوات على إطلاق شعارات الحقيقة والعدالة «ما زالت الدولة مصرّة على إنكار حق ذوي ضحايا الإخفاء القسري بمعرفة مصائر أحبائهم. بالطبع، لا ننسى أن رئيس الجمهورية تعهّد في خطاب القسم ضرورة حل هذه القضية، وأن الحكومة الحالية، أعلنت التزامها الكلي حق المعرفة كإحدى أولويات اهتماماتها (البندان 23 و35 من البيان الوزاري)».
تابعت حلواني: «من حقنا أن نعرف» ليس شعاراً فقط، إنه حق قانوني تترتّب عليه مفاعيل قانونية. فمن جهة، لذوي الضحايا حق المطالبة بكل ما يسهم في جلاء الحقائق، ومن جهة أخرى ثمة مسؤوليات في ذمة كل من ينتهك هذا الحق. كل من يعرف فيلزم الصمت ويخفي أو يتلف ما لديه من أدلة أو يعبث بها، بل كل من بإمكانه لعلوّ منصبه أن يعرف أو يستقصي فلا يفعل شيئاً. وبالطبع، تزداد مسؤولية هؤلاء بقدر ما تعلو مناصبهم الرسمية وقدراتهم على كشف الحقائق. «من حقنا أن نعرف» يعني أن المسؤول ليس فقط من خطف أو قتل أو عذّب، بل كل من يخفي معلومات من شأنها أن تضع حداً لمعاناة ذوي المفقودين، كل من تستّر على المقابر الجماعية في مار متر والتحويطة وحرج بيروت، كل من تعاطى بخفّة بعيداً عن المعايير العلمية مع معلومات تتصل بمقابر جماعية في عنجر وحالات والميناء في طرابلس وغيرها، وهو فعل يحصل حاضراً ويستمر باستمرار تجهيل مصائرهم».
من هذه المنطلقات، يتابع البيان: «نعلن من هذا المكان بالذات، وبعدما نفد صبرنا من مماطلة وتهرب المسؤولين، أننا قررنا اتخاذ خطوات غير مسبوقة في لبنان، فتقدمنا في 29 نيسان الماضي بإجراءات قانونية آيلة لتكريس حقنا في معرفة مصائر أحبائنا»،
وهي أولاً: دعويان رُفعتا أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، وهدفهما اتخاذ تدابير حمائية للمقبرتين الجماعيتين اللتين أقرّت الدولة بوجودهما داخل مدافن الشهداء في منطقة حرج بيروت (الدعوى مرفوعة ضد جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بصفتها مالكة المكان) ومدافن مار متر في الأشرفية (الدعوى ضد مطرانية الروم الأرثوذوكس مالكة المكان)، تمهيداً لنبشهما، وحفظاً لحق ذوي هؤلاء الضحايا في المعرفة.
ثانياً: طلبان قدّما إلى الدولة اللبنانية، يهدف الأول إلى الحصول على نسخة من المستندات والتحقيقات التي قامت بها لجنة الاستقصاء الرسمية في سياق تنفيذ المهمّات التي أنيطت بها للكشف عن مصير جميع ضحايا الإخفاء القسري، وتحديد مصائرهم. علماً أن هذه الإجراءات هي مجرد بداية، قد نستلحقها بإجراءات تشمل جميع الأراضي اللبنانية، على ضوء ما نراه مناسباً.
أما الطلب الثاني: فتسديد تعويض عن الأضرار النفسية التي تكبّدها ذوو المختفين قسرياً بنتيجة أخطائها الجسيمة المتمثلة في تنكرها لحق المعرفة، على أن يخصص هذا التعويض لإنشاء بنك معلومات حمض نووي وراثي (DNA) لذوي ضحايا المختفين قسرياً، وذلك تسهيلاً وضماناً لحق المعرفة. وبالطبع هذا الإجراء هو بداية ضرورية لعرض الأمر لاحقاً على مجلس شورى الدولة إذا رفضت الدولة الطلب المذكور».
تابعت حلواني: «فضلاً عن السعي إلى تكريس حق المعرفة، تمتاز هذه الإجراءات بميزات ثلاث متلازمة مع أهدافها، ومنها أولاً: أننا نتقدم بها، ليس باسم أفراد بل باسم الجمعيات الأكثر تمثيلاً لذوي الضحايا. وهذا الأمر يفرضه وجود مصلحة مشتركة لذوي هؤلاء الضحايا جميعاً في الكشف عن المقابر الجماعية وتكريس حق المعرفة، كما تفرضه ضرورة التكاتف والتضامن في مواجهة قوى تحاول جاهدة الحفاظ على صورة «كاذبة» للمحافظة على مشروعيتها المفقودة في تمثيل الأمة.
ونحن في هذا الصدد، إنما نؤكد على تضامننا الكامل مع رفيقتنا وصديقتنا في دروب العذاب، نجاة حشيشو، التي كافحت طوال عقود، وما زالت تكافح أمام القضاء لجلاء مصير زوجها المخطوف منذ عام 1982، محيي الدين حشيشو.
وأملنا اليوم، أن نُخرج المطالبة الحقوقية من طابعها الفردي مع ما يرتّبه ذلك من أعباء مضنية على عاتق الأفراد إلى طابعها الجماعي.
أما الثانية: فهي أن منطلق الإجراءات هو تغليب حق المعرفة بأبعاده الحقوقية (حقوق ذوي المفقودين) على المنطق العقابي (بمعنى معاقبة الخاطفين أو القتلة) دون أن يعني ذلك تنازلاً عن أي حق تجاه أيّ كان. فما نريده اليوم هو التعرف إلى مصائر أحبائنا، ضمان هذا الحق وهو حق أساسي لا يمكن نكرانه تحت أي اعتبار، سواء رغب المجتمع في مغفرة خطايا القتلة أو لم يرغب في ذلك.
الثالثة، أننا نحتكم إلى القانون والقضاء، بعدما خاب أملنا في مخاطبة السياسيين والقيمين على الإدارات العامة، دون أن يعني ذلك إسقاطاً لمسؤولية أيّ منهم. وحافزنا إلى ذلك، ليس فقط توقنا إلى قضاء مستقل، حامٍ للحقوق والحريات الأساسية، (وهنا نستذكر القاضي الراحل جوزف غمرون الذي كان أول من كرّس حق المعرفة) ولكن أيضاً إرادتنا بإيجاد مؤسسة عامة، نعرض أمامها قضيتنا (من حقنا أن نعرف) وتكون ملزمة ليس فقط بالاستماع إلى مظالمنا، إنما أيضاً بإبداء رأي معلّل قانوناً وإصدار حكم. آملين أن يكون الرأي صائباً والحكم عادلاً..» وقد علمت «الأخبار» من وكيل اللجان الثلاث لأهالي المخطوفين والمفقودين المتشاركة في رفع الدعويين المحامي نزار صاغية، وهو من كشفت حلواني أنه تقدّم بالدعويين، أن الجلسة الأولى للنظر في هاتين الدعويين قد حدّدت في 19 أيار 2009 الجاري، أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت.