دبي ــ ملاك خالدصديقي الذي ألتقيه في المدن الغريبة دوماً، يمرّ بدبي ساعات. يسرّني اتصاله وأمره الذي يصدره إليّ بأن آتيه إلى المطار لنطوف المدينة المضاءة بإسراف، التي تبنى على وقع أحلام كبيرة تتحقق بعرق العمال الذاهبين إلى أحلامهم الصغيرة، بعد انتهاء ساعات عملهم المرهقة في لهيب الصحراء. بعد ساعتين من التجوال بالسيارة، يعبّر عن دهشته.
«سلباً أم إيجاباً؟»، أسأله، فيجيب دون تردّد: «لا أعرف. أنا فقط مفاجأ. تشبه منهاتن. كم عمر هذه المباني؟». أجيبه: «أقل من خمس سنوات، لا أعرف على وجه التحديد. فإقامتي هنا لم تتخطَ سنتين. يطرق بصمت حزين. أتركه ليستوعب «مدينة الملاهي» التي وجد نفسه فيها، تاركة للموسيقى أن تداعب اللحظة.
«نذهب إلى البحر»، يقول. كنت قد نسيت أن الفلسطيني محكوم باشتياقه الأزلي للبحر. «بتعرفي كم صارلي مش شايف بحر؟»، أنتبه فجأة إلى الحقيقة المرّة. فلسطينيّو الضفة لا يزورون البحر إلا إذا رحمتهم سلطات الاحتلال وسمحت لهم بزيارة الأراضي المحتلة عام 48. ننزل في المياه الباردة، أشعر بالفرحة تملأه، الحماسة والسعادة معدية. أرقص على وقع موسيقانا، تحت قمر الليلة المكتمل، ونضحك كطفلين.
حين نجلس على الشاطئ، أسأله عن البلاد التي عاد إليها بعد دراسته في أميركا. يقول إنه يحبها أكثر من أي شيء. فحتى أميركا لم يستطع التآلف معها، وظل يحلم بالعودة، مع أن الآفاق هناك مسدودة، لا بحر فيها. «يا أختي، بعرفش أعيش إلا بالمخيم»، يقول.
المخيم. تبدو الكلمة هجينة وغريبة ونحن حافيان على رمل دبي (بالإذن من سعدي يوسف) وأمامنا غد لا نعرف له كنهاً: هو المحكوم بالجدار والآفاق المقفلة وحواجز الجسر والطرق الالتفافية، وأنا التي على جوازها أرزة تمنحها بعضاً من الكرامة الرسمية التي يفتقدها الفلسطيني. أحاول طمس اللحظة بأخرى، لكن سرعان ما أدرك أنها لا تقلّ عنها دراماتيكية، «ولاد الكلب هدموا دار سيدي بحيفا، عارف؟». يجيبني «مش جديدة عليهم. بعدين، دخلك، شو إلك إنت بفلسطين؟»، ملمّحاً إلى أنني قد أقرف منها لو زرتها. لا أُفاجأ. فالكثيرون يقولون ذلك حين يكسرون عنها هالة الحلم. هو لم يملّ منها ولم يقرف، لأنه مريضها كما يصف نفسه. فهو لا يستطيع أن يعيش في بلاد «متقدمة» تمنحه جوازاً يتيح له رؤية البحر.
أردت أن أقول له إنني يجب أن أزورها، لأنني أريد أن أعرف. أحتاج إلى أن أعرف ما هي تلك البلاد التي تُنبت فينا الرفض وتغذّي الأمل المستحيل بعد مرور 61 عاماً على نكبتها.
لابن المخيم ذلك، أردت أن أقول أموراً كثيرة. منها أنني أشتاق أيضاً إلى المخيمات التي لم أعش فيها يوماً، رغم أنني «بنت المدينة إللي إيدَيا ناعمين»، كما يصف يدي مقارنة بيديه المشققتين من العمل في بستنة «حاكورة بيتنا بالمخيم». أشتاق إلى روحها، إلى البيوت المفتوحة كقلوب ناسها، إلى العيون والحكي والذكريات رغم مرارتها، إلى الكرم والنخوة ورائحة التعب والهموم التي لا تُدارى. أستطيع أن أفهم تماماً كيف يمكن دبي أن تربك ابن المخيم الذي يحكي بخجل ويسرح بعمق، ويذيب قلبي الحزن البالغ في عينيه وفي حديثه. أردت أن أخبره ما لن يقرأه هنا: «مخيّمك بيسوى الدنيا»، ولكن موعد طائرته دهمنا.