أحرج جاك فيرجيس معظم الموجودين في قاعة الميوزيك هول. ذكر جورج إبراهيم عبد الله، مشيراً إلى أنّه من المفترض أن «تكونوا أنتم (اللبنانيون) الأقرب إليه». لم يتفاعل سوى القلّة مع عبارات الدفاع. فيما انزعج عدد من الحاضرين لصَفير غيرهم. سأل فيرجيس عما إذا كان لبنان لا يزال يخضع للانتداب الفرنسي، غامزاً من جمود القضاء والسلطة والشعب اللبناني تجاه قضية الرفيق جورج. أكد حق الأخير في تمضية بقية سنوات حكمه ـــــ مع العلم أنّ سنوات الحكم الظالم أصلاً، انقضت ـــــ في وطنه. عجزت «مجموعة الكرافاتات»، التي اصطحبت لمّة من فساتين الـsoirée المرفقة بالـtalons، عن تقبّل دعم ضيفها الفرنسي لمن يصنّفونه إرهابياً. وثمة من حضر دون أن يعرف ما هو العرض. مثلاً: أوضح M. cravatte لـMme talon عند مدخل المسرح: «c’est pas un concert». أو بما معناه: (حياتي) ما سنشاهده ليس حفلة موسيقية.يمكن تصنيف الحاضرين من دون تعميم نمطي للمجموعات على كل أفرادها:
المجموعة الأولى، أبناء الجالية الفرنسية الذين يشاركون في نشاطات مواطنيهم في بيروت. بالطبع لا تكترث هذه الشريحة لما سيقدّمه فيرجيس. همّها الوحيد شمّ بعض العبير الباريسي الذي جلبه معه.
المجموعة الثانية، أبناء التربية والثقافة الفرنسيتين. وهؤلاء يتابعون الأوضاع الفرنسية ويحاولون ملاحقتها لطموحهم اللامحدود في العيش في باريس أو في تحويل بيروت إلى نمط العيش الفرنسي.
المجموعة الثالثة، أبناء نقابتي المحامين في بيروت والشمال، من ذوي الخلفية الثقافية الفرنسية. استغل هؤلاء فرصة رؤية الـmaître الأشهر بين متعاطي مهنة المحاماة.
المجموعة الرابعة، المعنيون بالقضايا التي يدافع عنها فيرجيس، أو يتفهّمها على الأقل. يمكن ملاحظة تفاعل هؤلاء مع كل عبارة أشار من خلالها المحامي إلى قضيّتهم العربية، الإنسانية، الفكرية أو الشخصية. كانت هذه المجموعة الأقلّ حضوراً والأكثر اهتماماً بالعرض. وقلّتها في القاعة موضوع نقاش يمكن معالجته عبر ثمن بطاقة حفلات الميوزك هول وثمن احتساء كأس فيه...
غصّ فيرجيس بعباراته الأخيرة: بأي حق يمكن فرنسا أن تطلب من أي كان عدم مقاومة قوى محتلة لبلده. ثم، للدفاع عن نفسه تحوّل إلى الهجوم: سأل كيف يرضى اللبنانيون وحكومتهم بإبقاء فرنسا مواطناً لبنانياً في سجونها؟ حمّل جمهوره البيروتي جزءاً من المسؤولية فأحرجه. أحرج اليساريين لأنّهم شعروا بالضعف. وأحرج الآخرين لأنهم إما يتبعون لدولة لا تأبه لحقوق مواطنيها، وإما لأنهم لا يعرفون عمّا يتحدّث إذ إنهم حضروا فقط لأنّ العرض باللغة الفرنسية.
غصّ فيرجيس من جديد. غصّ لأنه يحمّل نفسه مسؤولية أداء السلطات الفرنسية. أحسّ بالذنب لكونه مواطناً في دولة باتت تبتعد عن المفهوم الإنساني الذي تدّعي أنها من مؤسسيه: الحرية.
أجهز فيرجيس على الفرنسيين: كيف تسمح فرنسا لنفسها بهذه الفعلة؟ أقفلت ستائر المسرح فيما الرفيق واقف دون حركة. فانتهت حفلة من الإحراج المتبادل. إلا أنّ فيرجيس خرج منتصراً. أحرج القضاة ـــــ الجمهور، وجعله يشعر كالعادة بأحقية مواقفه: المقاومة ليست الإرهاب. إنها أممية الحق والعدالة... أو أممية الإنسان بغض النظر عن أفعاله.
نادر...