بتمويل من منظمة اليونسكو بدأ الرفع الثلاثي الأبعاد لمواقع الآثار اللبنانية المصنفة على لائحة التراث العالمي. بداية الطريق كانت في بعلبك، حيث أتم فريق مختص أسبوعه الأول في التجربة

جوان فرشخ بجالي ــ علي يزبك
كيف يحافظ على المواقع الاثرية؟ كيف تتدهور حالها؟ ماذا يوثّق كل تغيّر يطرأ عليها؟ أسئلة يحاول علماء الآثار والمهندسون الاختصاصيون في هذا المجال الإجابة عنها باستعمال أحدث التقنيات في العالم. فمنذ أعوم بدأ استعمال الرفع الثلاثي الابعاد للابنية التراثية في العالم، وتبيّن أنها إحدى أهم التقنيات المتبعة إذ إنها تؤرخ الموقع بما يسمح للعلماء من بعدها بتحديد أي تغير يطرأ ولو كان بالسنتيمترات.
المشروع، وهو الأول من نوعه في الدول العربية، مموّل من منظمة اليونسكو. ويقول جوزيف كريدي، مدير مكتبها لشؤون الآثار في بيروت «إن كلفة المشروع ترتفع الى 700 ألف دولار أميركي استُعمل القسم الاكبر منها لشراء المعدات التي ستُستخدم لاحقاً لإنجاز الرفع الثلاثي الأبعاد للمواقع المصنفة على لائحة التراث العالمي. وقد بدأت التجربة لتحديد طريقة العمل في بعلبك، وتحديداً في معبد جوبيتر».
ولدت فكرة المشروع بعد حرب تموز 2006 حينما تضررت قلعة بعلبك من جراء القصف العنيف الذي طال المناطق المجاورة لها، ما أدى إلى تصدع في الجدران وحتى وقوع بعض الحجارة. لكن في حينها لم يستطع لبنان أن يقدم في تقريره أي معلمومات أدق من ذلك لغياب التوثيق الدقيق للموقع. وهذا ما دفع بعثة خبراء اليونيسكو إلى تقديم تقرير يطالب بتوفير تمويل للمشروع بحيث تمتلك المديرية العامة للآثار المعدات الضرورية ويبدأ العمل الميداني.
لذا، مَن زار هياكل بعلبك في الايام الماضية، يستغرب وجود علماء يجوبون في أرجاء معبد جوبيتر مزودين بآلات لإنجاز الرفع الثلاثي للمعبد.
والتقنية تعتمد على استخدام الليزر الذي يسمح بإقامة خرائط رقمية لرصد أي متغيرات في البنيان العمراني للهيكل يمكن أن تحصل بفعل العوامل الطبيعية كالزلازل أو الهزات الأرضية، أو الأخطار الأخرى كالحرب وغيرها. بداية العمل كانت في مدخل معبد جوبيتر في قلعة بعلبك، إذ بدأ الفريق مهمته الدقيقة والحساسة، مستخدماً عمليات الترقيم للمكان ثم تقوم كاميرات متطورة جداً بالمسح بواسطة تقنية الليزر وتُخزن المعلومات على شكل صور ثلاثية الأبعاد داخل حاسوب. وأوضح المشرف على الأبحاث والحفريات في المديرية العامة للآثار أسعد سيف «أن هذه التقنية تستعمل للمرة الاولى في الشرق الاوسط، فيما تستخدم على نطاق واسع في بعض البلدان الصناعية التي تملك القدرة على تصنيع مثل هذه المعدات وتجهيز العناصر البشرية لاستعمالها. وتنفيذ المشروع يتم بفريق مزدوج لبناني (مهندسان يعملان مع المديرية العامة للآثار) وخبير بلجيكي من جامعة لوفين. ويقول سيف إن العمل يعتمد على «تبادل الخبرات ميدانياً من الجانبين، فالفريق اللبناني يتعلم استعمال تقنية الرفع الثلاثي الأبعاد والرسم بالليزر لكي يكمل بعدها إنشاء مجسمات تعتمد على مقاييس دقيقة للمواقع الاثرية في لبنان، ومن بعدها ستبدأ مراقبة المواقع بشكل شبه دائم يعطي الإجابات حول التغيرات التي تعيشها». لا تتوقف أهمية المشروع على إتمام الوثائق، بل أيضاً على تأهيل العنصر البشري المحلي الذي سينجز هذا العمل والخرائط الرقمية. وسيستغرق العمل الميداني في معبد جوبيتر نحو شهرين، يتبعه تنظيم المعلومات في مختبرات المعلوماتية في المديرية العامة للآثار. وهذا أيضاً يحتاج الى شهرين لإنجازه. وفي نهاية الأمر ستتمكن مديرية الآثار من الحصول على نماذج دقيقة جداً لآثار بعلبك، وخرائط رقمية تفصيلية بعيداً من النماذج الورقية المعمول بها حالياً، ما سيتيح المراقبة الدائمة لأي تغيّرات قد تطرأ على أي حجر في القلعة مهما كان صغيراً، ومدينة بعلبك ستكون الانطلاقة لتعميم هذه التجربة على المعالم الأثرية في لبنان. يستغرق المشروع مدة طويلة، وخاصة أن هذه الدراسات تتطلب وقتاً. لكن في نهاية المطاف ستملك الدولة اللبنانية بيانات رقمية عن كل المواقع تسمح لها بدراسة ومراقبة تغيّر واقع الآثار بدقة. ويؤكد سيف أن تلك البيانات ستُنشر بدراسات علمية بالطبع ولكن ستوضع تلك المعلومات في كتب سهلة المنال في متناول الجميع.
ويقول سيف إن التجربة المتبعة اليوم في بعلبك جديدة عالمياً أولاً من حيث المساحة وثانياً من حيث مبدأ التوثيق، الذي يستعمل أيضاً الجيوفيزياء، وإذا أثبتت هذه الطريقة نجاحها فسيبدأ العمل بها على المواقع الكبرى في العالم.