كيف يترشح بين الخواجات! كان ينقص العصفورية واحد وبترشيحه امتلأت. محمود خالد، أبو كرم، يهزأ بمنتقديه، فهو بالأساس لا يتوجه إليهم، بل إلى الفقراء لا لانتخابه فحسب، بل ليكون سابقة تشجع الفقير على رفض احتكار الأغنياء لتمثيلهعكار ــ روبير عبد الله
لا يتطلب اللقاء مع مرشح الفقراء وأفقر المرشحين إلا الحضور إلى منزله خارج دوام عمله، فهو يعيش في حي شعبي يسكنه فقراء من أمثال مرشحهم محمود خالد بخلاف معظم المرشحين الآخرين الذين قد يختلفون فكراً وعقيدة ونهجاً ومشروعاً سياسياً أو انتخابياً،لكنهم في هذا الزمن بالذات وفي عكار بنوع خاص، وفي هذه الدورة الانتخابية بطريقة أخص، يكاد معظمهم لا يتمايز عن غيره في سمات الأبهة والمكانة المادية والاجتماعية، وهذا بمعزل عن جدية السؤال عن التباين في المشروع السياسي، لا سيما ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، إضافة إلى ما عرف عن العديد منهم من تنقيل البارودة بين الموالاة والمعارضة، بحسب مقتضيات الربح والخسارة على مدى المعارك الانتخابية المنصرمة.
بدأت فكرة ترشيحه «مزحة» ثم تبلورت مشروعاً. يبدو خالد واثقاً من تحقيقه، على الأقل لناحية تأكيد حق الفقير في الترشح لينوب عن أمثاله في الندوة البرلمانية. فمن أين يستمد بائع السمك الجوال هذه الثقة؟ وما الذي يقف خلف إصراره على خوض الانتخابات؟
لعلّ انسداد الأفق في بعض الأحيان يخلق مصادفات من حيث لا يتوقعها أحد. وفي عكار، تجسدت في ذلك الرجل الذي يحمل في شخصه سمات تبلورت في طفولته المبكرة حيث عايش تحدّيات جعلته قادراً على تجاوز المألوف والمتعارف عليه.
محمود خالد لا يحمل خطاب الحرمان المزمن في عكار بمعناه التقليدي، وهو بالأصل أعجز، بفعل تواضع تحصيله العلمي، عن صياغة الجمل الطنانة عن الحرمان والإنماء المتوازن، التي لطالما أصمت أسماع العكاريين بدون طائل.
ولد الرجل في ببنين عام 1962، ثم التحق بالمدرسة الرسمية في البلدة. و«في تلك الأيام لم يكن أهلنا، يقول محمود خالد، من النوع الذي يسأل ابنه عن دروسه وفروضه وباقي مشاكله في المدرسة، إذ جلّ ما كان يظفر به الولد هو الهرب من الأعمال الزراعية لينال حظوة اللجوء إلى المدرسة. لكن الأسوأ أن معلمي الأمس ما كانوا يتعاملون مع التلميذ باللين والتفهم الذي نعرفه اليوم، بل كان «الفلق» سيد الموقف، عدا الإهانات اليومية وما يلحقنا من شدّ أذن من هنا أو قضيب رمان من هناك، فكان العلم مثل الأشغال الشاقة. حاصل الأمر، يكمل أبو كرم، لم أصل إلى الصف الخامس إلا بطلوع الروح».
مطلع السبعينيات (من القرن الماضي) كان محمود خالد يتردد إلى العبدة، ومن هناك كان يراقب سفن النفط وهي تقترب من الشاطئ. كان عمره لم يتجاوز الثانية عشرة عندما طلب من مصطفى المصري الموظف في الأمن العام مساعدته للحصول على جواز سفر. ولما عرف بشروط تجهيز جواز السفر ومنها موافقة الأهل نظراً لصغر سنه، سرق هويتي والديه، وسلمهما إلى حسن الأيوبي من بلدة بتوراتيج مع وعد بثلاثة كيلوغرامات من السمك في حال تدبيره الأمر.
مع حصوله على جواز السفر، يروي محمود خالد «شعرت بأن لي أجنحة أطير بواسطتها، وخصوصاً بعدما طلب مني أحد المسؤولين عن الباخرة «غلوريانا»، وقد أسميت إحدى بناتي لاحقاً باسمها، تجهيز ثيابي وأغراضي للسفر. بالطبع كنت على علم أن أهلي لن يوافقوا على هذا الأمر لصغر سني. فرتبت أغراضي في السر ووضعتها تحت «الدشك» أمام المنزل، لأنهض ليلاً وأذهب من دون علم أحد».
وبدأت رحلة محمود خالد حول العالم قبل بداية الحرب الأهلية بخمسة أشهر، من دون أن يرسل أي خبر إلى أهله، يعلمهم فيه بمكان وجوده. فكانت بداية الحرب ومن ثم كثرة المذابح والمجازر كافية لإقناع الأهل بأن محمود قد مات، فحفروا له قبراً، ظلت الوالدة تزوره على مدى سنوات غيابه الثماني.
السنوات الثماني التي قضاها محمود ميتاً، بنظر أهله، سمحت له بالاطلاع على أشياء لم تكن في بال فقراء عكار وببنين. فمن واقع يقول عنه والده، الرجل المسن أحمد عياش خالد، إن البيك كان له الحق بأن يضرب الفلاح بالجزمة ثم يأمره بإعادتها إليه، والعاقبة للـ«مجنون» الذي لا يمتثل. من هذه البيئة سافر محمود خالد ليكتشف عوالم تزخر باحترام حقوق الإنسان والنظام والعدل والقانون مما لا وجود له في لبنان، بل يقول محمود خالد من احترام لحقوق الحيوان حيث «للكلب هوية» بينما في لبنان إعطاء الجنسية والهوية لأبناء البلد مسألة فيها نظر.
عاد إلى لبنان ليعيش وسط أهله، فاشتغل في بيع الأسماك بواسطة «الفان» الذي يستعمله اليوم في خوض حملته الانتخابية. فتعرف إلى مختلف القرى والبلدات العكارية، وأقام علاقات حميمة مع الجميع على مدى عشرين عاماً. كان بفطرته وطيبته ينظر إلى حال أمثاله من الفقراء، فعندما يصادف طفلاً يطلب من أمه شراء السمك وترفض الأم طلبه، كان يحلو له أن يحمّل الولد كيساً من السمك من دون أي مقابل، وهذا ما جعله طوال السنين والأيام محبوباً من أهالي عكار، وخصوصاً من جانب الفقراء منهم.
عندما أعلن محمود خالد ترشيحه جاءه أحدهم، على حد قوله، وعرض عليه مبلغاً من المال، فأجابه بسطحية لا تخلو من الفطنة «أنا لا أتذكر أنني اشتغلت عند أحد لأستحق هذا المال، ولا أملك ما أدينه لغيري، حتى يعيده لي». ثم يضيف أنه منذ عام 1992 والمرشحون يدفعون المال «لا يجوز أن يشتري المرشح الإنسان الذي لا يقيّم بكنوز الأرض». وبالمقابل «المفروض من أي منتخب من حيث إنسانيته المحترمة أن لا يتقاضى مادة ولو كانت أحواله متردية وحافي القدمين ويمشي على الشوك، فالفقر والغنى من الله، لذلك فليس الفقر عيباً».
يستطرد محمود خالد إن «اندفاعي إلى هذا المنصب لتحصيل أحوال الفقير لإملاء مركز الفقير وتشجيعه على ترشيح نفسه مهما تكن أحواله متردية، وأنا أفسحت المجال لكل فقير بأن يترشح، فالمسيح كان ابن راعي غنم، ومحمد كان مع الفقراء أيضاً. ولو كان التقدم بالمال ما كان الأغنياء ليعلّموا أولادهم».
في اللقاء معه أخرج بيانه الانتخابي بعنوان نوايا المرشح محمود خالد «أبو كرم». بيان انتخابي يطلق في مطلعه شعاره الرئيسي «مرشح الفقراء وأفقر المرشحين» ويختمه بـ«انتخبوا الذي أضحككم لا من يضحك عليكم»، مروراً بسلسلة مطالب لا تبتعد كثيراً عن معاشه اليومي وهموم أمثاله من فقراء عكار، فيسأل عن تخفيف أسعار البذار والأسمدة ومستلزمات البيوت البلاستيكية، وعن تأمين مراكب وشِباك للصيد بأسعار معقولة وبالتقسيط. ويتساءل «كيف يشتري ابن عكار الماء بالصهاريج والينابيع منتشرة في كل مناطقه؟».

برنامجه الانتخابي
في ترحاله اليومي بين أزقة القرى العكارية وشوارع بلداتها، عاين محمود خالد مشاكل عكار وقضاياها، فلم ينسخ برنامجاً انتخابياً حفظه الناس غيباً وبات يتوافر في المكتبات وبتصرف جميع المرشحين في كل الحملات الانتخابية المتعاقبة، بل سكب ما حصل من قيم ومعارف متواضعة، وصاغها صادقة على قدر إحساساته وثقافته المادية المباشرة.