أنسي الحاج
كذباً أكذب
كم أودّ لو أكون في منتهى الصراحة، ولكني لم أتخلّص من رغبة انتزاع الموافقة. كيف للمرء أن يجمع بين الوحشيّة والودّ، بين الاستهتار والمسؤوليّة؟ لم أعد أصدّق نفسي حين تدّعي أنها لا تعبأ بالبحث عن الإعجاب. كذباً أكذب. قد أخلط بين العدوانيّة والاستغناء، لكن العدوانيّة شكل آخر من أشكال استرعاء النظر، بل هي أشدّها أنانية. في الوقاحة عصيان، وفي العصيان فروسيّة، لكنهما هما أيضاً شكلان من أشكال إثبات الذات المسرحيّة.


خارج المنافسة
اثنان لا يُنافَسان في السينما: الولد والحيوان. يخطفان الاهتمام ويستحيل إلاّ التركيز عليهما. السبب أنهما لا يمثّلان ولا يتكلّمان بل يكونان وكينونتهما قاصمة. وإذا التقى الاثنان فالولد هو القطب الأكبر.
الحياة كلّها بحثٌ عن اللحظة اللامسرحيّة. عن فجر الشعور قبل التنفُّض من آثار النوم. بحثٌ عن أصالة الحيوان وبراءة الولد. وأكثر ما يُمْتَحنان في معرض التمثيل.
أكثر ما يكون المرء صادقاً حين لا يعرف الفرق بين الصدق والكذب. وحين لا يعبأ بالناظرين إليه، أو يكون موقفه من «الجمهور» في أدنى درجات التأثّر. يصيبك لأنه لا يتعمَّد إصابتك.
أبعد حدود الصدق هو الحيوان. أمّا الوَلَد فعابر صدْق.


مصر الأمل والضوء
تتردّد أصداء معركة في مصر حول جائزة أدبيّة. وخارج مصر حول جائزة أخرى. اتهامات وشتائم. حتّى في هذا يصعب على العرب تجاوز الأنانيات. ويصعب على المتتبّع القبول بمشاهد التهالك على الحصص والأمجاد، وكلٌّ يحسب قضيته عالماً بذاته، وهي لا تعدو كونها أزمة لبضعة أشخاص لا يطيق الواحد منهم صورة الآخر، ولا يمنعهم تباغضهم من تبادل الاعتراف بعضهم ببعض باعتبارهم أغصان شجرة واحدة، فهم أعداء ولكن لا وجود لأحد سواهم.
ليس اللبنانيون بأفضل حالاً من المصريين في الانكفاء على إقليميتهم. شعار العروبة الأدبيّة الجامعة ادّعاءٌ لم يستطع الارتقاء إليه في التاريخ الأدبي العربي غير قلّة ممَّن حقّقوا الشعار بإشعاع أدبهم. وإذ قد يشفع للمصريين كثافة عددهم وضخامة قضاياهم الاجتماعيّة، فلا يشفع للبنانيين غير انفتاح السوريين والعراقيين وبعض الخليجيين والمغاربة على أدبهم وانجذابهم إلى حيويّة بيروت. ولولا الطابع الشمولي للحداثة، التي هدمت حدوداً ووصلت ما بين الهموم والتطلّعات، لظهرت المشكلة في صورها الأكثر انغلاقاً.
التحيّة، في هذه المناسبة، لنخبة من الشعراء والقصّاصين والأدباء المصريّين الذين اخترقوا حُجُب الإقليميّة، وأشعروا أدباء الأقطار العربيّة الأخرى بشراكةٍ طال الشوق إليها، وردّوا الروح إلى عبارة «الأدب العربي». هذا الإنجاز ما كان ليحصل لولا مصر. كان دائماً ثمّة روابط بين العراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وإلى حدٍ ما البحرين وبعض المغرب. أمّا مصر الأدبيّة والفكريّة فكانت إلى الأمس القريب حاضرة على الأغلب بغياب اهتمامها وبغَيظ المشرقيّين من هذه اللامبالاة. ويوم أبدى طه حسين إنصافاً لبيروت قبل سبعين عاماً هبّت على اللبنانيين والشوام عاصفة من الزهو لم تلبث أن أخمدتها الأيام... إلى أن نهضت ثورة الحديثين في مصر وصوّبت مجرى الأشياء.
هؤلاء الحديثون الذين يعانون الأمرّين على أيدي مناوئيهم من الرجعيّين والسلطويّين في مصر، والذين هم الآن الأمل والضوء لإخوتهم وقرّائهم في الدنيا العربيّة. ومن أكبر الأوسمة على صدورهم انصرافهم عن الأوسمة، وأجمل جوائزهم احتقارهم لجوائز تهيمن عليها، ولو اختلفت، أغصان شجرة واحدة.


سيوران يُشرّح فرنسا
أعيد في باريس نشر جواب وضعه عام 1941 إميل سيوران، الفيلسوف الروماني الأصل، في خضمّ تلك الحقبة المتلبّدة بالغضب والإحباط، رداً على سؤال: لماذا لم تعد فرنسا تقود العالم؟ ويجد المعنيّون بفرنسا، ونحن منهم، في هذه المحاولة، أجوبة عن تساؤلات عديدة لا تزال معاصرة.
يقول: «لا أظنّ أني سأعبأ بالفرنسيين لو لم يعانوا ما عانوه من ضجر خلال تاريخهم. لكن ضجرهم خلو من العنصر اللانهائي. إنه ضجر الوضوح، سأم الأشياء المفهومة (...) القرن الأكثر فرنسيّة هو القرن الثامن عشر. إنه الصالون وقد أضحى كوناً (...) إنه أيضاً القرن الأكثر تضجّراً، والذي تمتّع بأكثر ممّا ينبغي من وقت، ولم يشتغل إلاّ لتمضية الوقت (...) فرنسا حظيتْ بامتياز النساء الذكيّات، اللواتي أدخلن الغوى إلى الفكر، والسحر السطحي واللذيذ إلى المجرّدات.
(...) ماذا أحبّت فرنسا؟ الأساليب، مِتَع الذكاء، الصالونات، العقل، الكمالات الصغيرة. التعبير يتقدّم الطبيعة. إنها ثقافة الشكل وقد استجمعتْ القوى البدائيّة وراحت، فوق كل انبثاقٍ شغوف، تفرش صباغ الرهافة بعد إمراره على مصفاة الفكر».
ثم يقول: «الذكاء والفلسفة والفن في فرنسا تنتمي إلى عالم المفهوم (...) إن فرنسا هي رَفْضُ السرّ. إن أكثر ما يُشبهها هي اليونان القديمة. ولكن، في حين كان الإغريق يزاوجون بين الذكاء والنفحة الميتافيزيكيّة، لم يمضِ الفرنسيون إلى هذا البُعد، لم يستطيعوا ـــــ هم المغرمون بالمفارقات في أحاديثهم ـــــ أن يعيشوا مفارقة واحدة بوصفها حالة أو موقفاً (...) عندما كانت فرنسا قادرة على تحويل المفاهيم إلى أساطير، لم يتعرّض جوهرها الحيّ للخطر (...) إن خَلْق الأساطير وتبنّيها، والكفاح والتألّم والموت في سبيلها، هذا هو ما يبرهن على خصب الشعب. لقد كانت «أفكار» فرنسا أفكاراً حيويّة، قاتل الفرنسيون من أجلها قتال الجسد والروح. ولئن كانت فرنسا تحتفظ بدور حاسم في تاريخ أوروبا الفكري فلأنها عيّشت أفكاراً عديدة، وأخرجتها من العدم التجريدي للحياد المطلق. إن الإيمان معناه الإحياء.
لكنّ الفرنسيّين ما عادوا يستطيعون الإيمان ولا الإحياء. ما عادوا يريدون الإيمان مخافة أن يبدوا مضحكين. إن الانحطاط هو نقيض عصر العظمة: إنه إعادة تحويل الأساطير إلى مفاهيم».
ويضيف: «الشعب لا ينتظر شيئاً. إذاً، مَن ذا الذي سيقترح عليه شيئاً، وماذا يقترح؟ لا تعيش الشعوب حقّاً إلاّ بنسبةِ ما تُشْبَع بالمُثُل العليا، حتّى لا يعود في قدرتها التنفُّس تحت وطأة المعتقدات. الانحطاط هو فراغُ المُثُل العليا، اللحظة التي يستتبّ فيها القرف من كلّ شيء: إنه عدم احتمال المستقبل، أي: شعور إفلاسي بالزمن، مع النتيجة المتحتمة لذلك: نَقْص الأنبياء، وضمن ذلك، نقص الأبطال (...).
«لقد أنهك الفرنسيون ذاتهم بفرطِ الوجود. ما عادوا يحبّون أنفسهم لأنّهم يشعرون شعوراً فائقاً بأنهم انوجدوا (...) إن الانفصال عن القيم والعدميّة الغريزيّة يجبران الفرد على اعتماد طريق الملذات الحسيّة. عندما لا يعود الإنسان يؤمن بشيء تصبح الحواس ديانة. وتصبح المعدة غاية. إن ظاهرة الانحطاط لا تنفصل عن الأكل (...) المآكل تحلّ محلّ الأفكار (...) من آخر فلّاح إلى أرقى المثقّفين، باتت ساعة الطعام الطقس اليومي للفراغ الروحي. إن تحويل حاجة فوريّة إلى ظاهرة حضاريّة خطوة خطرة وعارض خطير. لقد كان البطن مقبرة الإمبراطوريّة الرومانيّة، وسوف يكون حتماً مقبرة الذكاء الفرنسي...».
على هذا المنوال يُشخّص سيوران ملامح «الأزمة البنيويّة والقاتلة» للواقع الفرنسي. وأكثر من واقع، خاصة على شاطئ المتوسّط، يتقاسم مع المجتمع الفرنسي العديد من الظواهر التي يتوقّف عندها الفيلسوف المتشائم. وسواء خيراً أم شرّاً، عندما تقول «فرنسا» تقول شمساً للعالم. لهذا، ولغيره، عوارضها تُقلق. ولأنّها، مهما تأزّمتْ، لا تُعْدَم ضمائر من صميمها تُقرّعها، نظلّ نردّد إقناعاً لأنفسنا بأن لا خوف على تلك الشمس.
وفي كلّ منّا، فرنسيّي الهوى كنّا أم غير ذلك، شيءٌ كثير من فرنسا.


أين تمضي الصبايا؟
أين تمضي الصبايا؟
يتدفّقن في الشوارع كالشلّالات، وفجأةً تُقفر بدونهن الأرض...
أين تمضي الصبايا؟
لمَ الاستعجال، والشَعْرُ يطوف بالهواء كما يطوف الهواء بالصدور العطشى؟
ألا يرين الضجر حولهنَّ فتلوي قلوبهنّ على رفاق الدرب؟ أم أنهنَّ يعتبرن ضجر الآخرين شرطاً ضروريّاً لازدهارهن؟
ولكنْ لا نَسَلْ أين تمضي الصبايا، فحيث يمضين سيلقين العقاب على طيشهنّ ضجراً أشدّ من ضَجَر الرجال، ضجر الممثّل بعد أن يخلو المسرح من الجمهور...
وهكذا يهبط الليل على الجميع.
وأين يمضي الجميع بعد أن يساويهم الليل في احتلال قلوبهم؟
تبّاً لكِ أيّتها الأجساد، نحكي عن الحريّة، ولا نستطيع أن نفعل بكِ ما نريد...


لا تُغنّوا العودة
لا سقوط ولا صعود، إذاً أين؟
وماذا سيتعلّم واحدنا عن الآخر، بعد، أكثر من الابتسام؟
كانت قديماً حركة عمياء، حركة لا حلم، حركة لا طموح، حركة حتميّة عمياء. ولم تتعدَّ تَنَفُّضَ الجناحين غبّ الولادة.
بالصدفة ما كان. بالصدفة أو بالقَدَر، أيُّ فرق؟ أو بالعَمْد، أيُّ فرق؟
كرهتُ الوداع لأنه يعيد الأمور إلى نصابها. ما أشقى العودة! لا تُغنّوا العودة! تَغنّوا دوماً بالرحيل! ولو بدون رحلة، ما الفرق؟
ليت العالم انتهى قبل أن تقول شيئاً.
الشمع الأحمر في البداية والشمع الأحمر في النهاية.
هكذا كان يمكن أن يلتقي الحضور والغياب في انعدام الفَرْق.