كمال خلف الطويل*قام نظام عبد الرحمن عارف قوميّ الميول، وبالتنسيق مع عبد الناصر، بخطوات ثلاث أتت على مصيره بالقضاء المبرم لعظم تعارضها التام مع مقاصد السياسة الأميركية (وتابعتها البريطانية في المنطقة). هي بالتحديد:

أ ــــ منح شركة أيراب الفرنسية امتياز الكبريت في الجنوب العراقي، إضافة لبعض الاستثمارات البولونية النفطية هناك كشريك لشركة النفط الوطنية العراقية.

ب ــــ شراء العشرات من طائرات الميراج الفرنسية.

ج ــــ التعهد بزيادة حجم القوات العراقية في الأردن من فرقة ولواء إلى ثلاث فرق خلال شهور، مع التهيئة لذلك بتعيين إبراهيم الأنصاري رئيساً لأركان الحرب.

تم ذلك كله في الشهرين الأولين من عام 68، لكن اهتراء نظام عبد الرحمن عارف كان قد بلغ أشدّه، فالرجل ضعيف ومسالم، وشلّة الرمادي الحامية للنظام كانت مخترقة عبر أهم أعمدتها: عبد الرزاق النايف نائب مدير الاستخبارات العسكرية، وإبراهيم الداود قائد الحرس الجمهوري، اللذان ــــ وبالأخص النايف ــــ كانا على ارتباط وثيق بالاستخبارات الأميركية، وامتدادها البريطانية.

كانت مشكلة الرجلين، الجاهزين للخدمة، هي حاجتهما للتحالف مع حزب مدني ذي وزن خلال مرحلة التمكّن والتمكين.

لم تأخذ رحلة البحث وقتاً طويلاً، ذلك أن الحزب الشيوعي من سابع المحرمات، وبعث اليسار من ثامنها لِما لوجوده في السلطة من خطر على نشوء سوراقيا على حدود إسرائيل، أما الناصريون فهم، على تشرذمهم، خطر قائم بل مستفحل لكونهم نسغاً داعماً لعبد الناصر، لا سيّما وهو في خضم معركة إزالة آثار 67 وحاجته الماسة لجبهة شرقية فاعلة.

من ترى هي القوة التي تعادي هذه الأطراف الثلاثة مجتمعة ويمكن بالتالي التحالف معها لزمن يطول أو يقصر وفق الحاجة، علماً بأنها في حد ذاتها، أي بعث اليمين، قابلة للتحول، إن توطدت وتجذّرت، لخطر من نوع آخر بواقع أن طروحاتها ورؤاها وخلفيتها تبقى في الخانة القومية؟ ليس في الميدان بهذه المواصفات والخصائص شبه المثالية إلا بعث اليمين، وهكذا كان.

وُضع لطفي العبيدي وناصر الحاني، عميلا الاستخبارات المركزية، في سكة الاتصال مع البعث رفداً للنايف، فأنضجت صفقة التواطؤ بين البكر والنايف، وما ترتّب عنها من طرد عارف لأنقرة وتسلّم القصر الجمهوري دون مقاومة تذكر.

أضمر البعث التخلّص من شلّة الرمادي في أسرع وقت متيقناً من لامبالاة الأميركان والإنكليز لما لأولوية خصومة البعث مع عبد الناصر وجديد وموسكو، ملتحفاً رداء القومية، من غالب أهمية.

هنا أيضاً كان تقاطع المصالح، كما الحال عام 63، هو سيد الأحكام. حينها عاش بعث اليمين في حالة انحسار عبر الوطن العربي كله بسبب انحياز معظم المنظمات الحزبية لبعث اليسار بعد انقسام 66.

في ربيع عام 68 قرر بعث اليمين أن سبيل الإنقاذ هو الوصول للسلطة، لا سيّما أن نظام عارف ـــ الثاني يانع للسقوط، أن تؤمّن رضى، أو أقله سكوت، الأميركيين.

لم يحتج ترتيب ذلك لذهاب صدام إلى السفارة الأميركية ببيروت كما يتقوّل البعض لانتفاء الحاجة فيما تحت الطلب ببغداد لطفي العبيدي وناصر الحاني، فضلاً عن توافر محطة «للمركزية» في بغداد في إطار قسم المصالح بالسفارة السويسرية.

هل كان سلوك البعث العراقي متوائماً مع مقاصد السياسة الأميركية؟ أم متعارضاً أم مركّباً؟

في البدء برهن البعث على حسن سلوكه عبر تعطيله نشوء الجبهة الشرقية، وفي اتخاذه موقف التواري عن نجدة المقاومة الفلسطينية من هجمة أيلول الأسود الهاشمية، برغم وعوده السالفة بالنجدة ووجود 17 ألف جندي عراقي في المفرق.

اتخذ البعث هذا الموقف الموسوم بالتخاذل خشيةً من غضب الحليف الأميركي التكتيكي، وعلى خلفية ضجر هذا الحليف من البعث، بعد سنة ونصف من قدومه للسلطة، مفضّلاً استبداله بحليف يميني ثابت وسافر.

من هنا كانت المحاولة الجادة والكبيرة في كانون الثاني/ يناير 70، التي قادها عبد الغني الراوي ورعاها شاه إيران واقتربت قاب قوسين أو أدنى من النجاح.

بعد خروج عبد الناصر من المعادلة الإقليمية والدولية بوفاته في أيلول/ سبتمبر 70، ظنّ بعث العراق أن الفرصة قد واتته ليرث عرش القومية العربية، وخصوصاً أنّ خصمه اللدود في دمشق، صلاح جديد، يقترب من خسارة صراعه مع حافظ أسد، الذي ظنّت بغداد بإمكانية احتوائه، ومن ثمّ استدخاله.

مع نهاية 71 كان صدام قد تخلّص من أهم منافسيه في الحزب والحكم: حردان وعماش والشيخلي، ووطد مكانته نائباً للبكر وشريكاً متصاعد الأهمية له. كان وراءه رصيد رعايته لاتفاق الحكم الذاتي مع الأكراد في آذار 70، ثم انفتاحه النسبي والحذر على الحزب الشيوعي العراقي.

احتاج صدام للقيام بخطوة تاريخية تدخل الحزب وشخصه أوسع أبواب التاريخ، فكان تأميم شركات النفط الأجنبية، وعشيّتها عقد معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي.

جاء الرد الأميركي سريعاً... توقّف نيكسون وكيسنجر في طهران عائدين من قمة موسكو ليعلنا عقد صفقة أسلحة مع إيران تؤهلها لتبوّء مكانة شرطي المنطقة المتفوق، وليستدعيا مصطفى البرزاني لإخطاره بضرورة إعادة تحريك الملف الكردي عسكرياً مسنوداً إلى الآخر بالدعم الإيراني.

وسرعان ما بدأ البرزاني في مشاغلة قوات الشمال العسكرية مسنوداً بظهيره الإيراني ومعززاً بمشورة إسرائيلية نوعية كان قد مضى على وجودها بين ظهرانيه منذ عام 64، وتقلّب في خدمتها أشخاص مثل دافيد كمخي وبنجامين بن اليعازر وإسحق موردخاي.

رد نظام البعث العراقي على التلاعب الإيراني بورقة أكراد العراق بتأسيسه جبهة تحرير عربستان لتكون أداته للقيام بعمليات تخريب وتحريض، في آن، داخل الجنوب الغربي لإيران، والمأهول بأقلية عربية معتبرة.

في تلك الفترة مدّ البعث العراقي أذرعه التنظيمية عبر الخليج والجزيرة مما سبب جفاءً شديداً مع أنظمة التبعية في المنطقة كاد أن يدخله في مأزق معها، كما تجلّى في تموز/ يوليو 71 عندما سارع بعث العراق لإسناد الانقلاب الشيوعي في السودان، فأوفد العضو السوداني في القيادة القومية محمد سليمان التعايشي إلى الخرطوم على رأس وفد للتهنئة والدعم، لتسقط المضادات الأرضية السعودية طائرته في البحر الأحمر.

في ربيع 73 أرسل بعث العراق ما في حوزته من طائرات هوكر هنتر إلى مصر مع طياريها تمهيداً للاشتراك في حرب مقبلة مع إسرائيل، وكأنه يدفع الجزية قبل أن تطلب منه، وأين؟ في الجبهة الأبعد، وليس في المكان المنطقي والقريب أي سوريا، ذلك أن التباعد والنفور بين شقي البعث كان قد وصل مع عام 73 إلى درجة الاستفحال.

وبرغم إخطار قيام السادات والأسد البكر ــــ صدام بموعد حربهم، أرسلا قرابة فرقتين، إضافة إلى بضعة أسراب إلى الجبهة السورية بعد يومين من بدء الحرب.

حينها ما كان أمام أيّ من الملا والشاه إلا الامتناع عن استغلال الموقف في الشمال فيما الجيش العراقي يقاتل إسرائيل في الجولان.

كان دخول الجيش العراقي مرتجلاً وفوضوياً في بدايته ثم ما لبث، رويداً، أن انتظمت وتيرته واشتدت فعاليته ليضحي عاملاً فاعلاً في جبه الخرق المتسع شمال الجولان وجنوب العاصمة دمشق، والمهدد للأخيرة بأن تكون على مرمى المدفعية المباشر.

لنلحظ هنا ما فعله البكر ـــــ صدام حال وقف إطلاق السادات والأسد النار في 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر: سحبا قواتهما من سوريا في التو واللحظة تحت حجة أن بقاءها سيكون «غطاءً» للتحركات السلمية للسادات والأسد، وهو ما يعترضان عليه.

والحق أن السحب الفوري كان أولاً لخشية نظام بغداد من عودة الجبهة الكردية للاشتعال في وقت كانت قواته أضعف من المعتاد في ضوء غياب حيّز مهم منها في سوريا، وثانياً لاسترضاء واشنطن بتجريد نظام الأسد من ورقة ضغط مهمة فيما هو يدير مفاوضات ما بعد الحرب، وثالثاً للوقاية من جرثومة تأثير البعث السوري على ضباطه المرابطين في سوريا، وخصوصاً أن نجم أسد في صعود، أمّنه قراره بالحرب.

حينذاك، مد البكر ـــــ صدام حبال الود مع واشنطن أطول فأطول عبر خرق حظر النفط المفروض على الولايات المتحدة سراً وبطرق مباشرة وغير مباشرة (هولندا).

والحال أنهما اعتقدا أن هذا الحظر غير جاد أو مستدام، ثم هي فرصة للكسب، والأهم أنها توطئة نوايا طيبة GOOD WILL لما ينتوياه من هزيمة شاملة للجيب الكردي عندما يزفّ موعد الحكم الذاتي في آذار 74.

في ذلك الوقت شنّ الجيش العراقي أعتى حملة له، لتاريخه، ضد بيشماركة الجبال، فاخترق جبالهم ووطّد فيها مواقعه ودفعهم إلى الحدود الإيرانية تحت وطأة اندفاعه الحاسم. ردّ الشاه على الهجوم العراقي غير المسبوق باشتراكه المباشر في إسناد الأكراد عسكرياً بالمدفعية والوحدات الخاصة.

قابل العراق ذلك برمي معظم قطعاته في المعركة، مما سبب استنفاد جلّ ذخيرتها. وطيلة الوقت كانت بغداد تحاول إخراج الشاه من المعادلة الكردية عبر عرض صفقة تشمل وقف دعم جبهة تحرير عربستان وتقسيم شط العرب، لكن الشاه لم يستجب حتى أتاه الضوء الأخضر الأميركي في آذار 75 عندما قدّر كيسنجر أن دور الأكراد في إنهاك العراق واستنزافه قد استنفد، وأن الأهم الآن هو تأهيل النظام العراقي ليلعب الدور المأمول في مشاغلة النظام السوري وتسعير الصراع السوري ـــــ العراقي كعنصر ضغط على سوريا خلال مباحثات الخطوة خطوة بين مصر السادات وإسرائيل.

بوساطة من هواري بومدين، وفي الخلفية أنور السادات، عُقدت صفقة الجزائر بين الشاه وصدام، وضُحّي بالبرزاني على مذبحها، وبسطت بغداد سيادتها الكاملة على كل شمال العراق مصفّية كل معاقل التمرد الكردي.

شهدت السنوات الخمس 75ــــ80 أكبر عملية تنمية في تاريخ العراق مستفيدة من فورة أسعار النفط غداة حرب أكتوبر، وشملت نشر الخدمة الصحية في ربوع العراق، ومحو الأمية، وتأمين الخدمات الأساسية في الريف والبوادي.

تمّت أيضاً عملية استحضار ثلاثة ملايين فلاح مصري لتأمين العامل البشري في الدورة الزراعية الإنتاجية، ومحاولة استجلاب العلماء العرب في شتى المجالات، ثم الشروع الجاد في الولوج إلى عصر الذرة عبر صفقة المفاعل النووي مع جاك شيراك رئيس الوزراء الفرنسي عام 74، ومعها الانفتاح على أوروبا الغربية وتنويع الصلات العسكرية والصناعية، مع التخفف من الاكتفاء بالعلاقة الأحادية مع السوفيات.

كانت سنوات ما بعد أكتوبر هي سنوات تكوّن الرؤية لدى صدام بأهلية دوره، عبر العراق، في قيادة المنطقة، فمصر السادات تخرج بتسارع ملحوظ من المعادلة العربية، وآل سعود لا يملكون قرارهم مهما اتسع غناهم، ثم إن سقف طموحهم يتسق مع المقاسات الأميركية ويصب في خدمتها، أما سوريا فمقدّراتها لا تسمح لها بالدور الأول.

كان رهانه أن خطتين خمسيتين للتنمية مع صناعة عسكرية متنامية تشمل المجالات فوق التقليدية كفيلة في غضون عقد من الزمان أن تجعل من العراق قائداً طبيعياً للأمة العربية، وهي التي تتوق لقيادة جديرة بعد طول انقطاع.

مرت السنوات 75 ــــ 77 على النظام وهو في أحسن حال، ورغم إزعاج الحزب الفاطمي في عاشوراء 77، الذي قمع بقسوة تناسبت مع الخشية المزمنة لبعث العراق من تحرك الملف الشيعي ضده.

والحال أن مفصل أكتوبر 78 شهد قراراً سورياً ـــــ عراقياً بالمصالحة ساقته ظروف معاهدة كامب ديفيد في الشهر السابق، وأتى عشية إطلاق بغداد مبادرة عقد مؤتمر قمة عربية تبحث آثار الخروج المصري من المعادلة العربية.

كانت المصالحة حاجةًَ سورية بعدما فقد الأسد غطاءه وارتكازه المصري وأضحى عارياً في ساحة المشرق أمام إسرائيل وحلفائها في لبنان، وأمام تواطؤ أردني مع خصومه الألداء من الإخوان المسلمين، وأمام تنابذ فتح عرفات معه.

أما بعث بغداد، فقد وجد في بعث دمشق صمام أمان أمام هجمة الإعصار الخميني، لعلمه بمدى الوشائج الخفية بين مجموعات الخميني في لبنان وأوروبا ونظام الأسد، ومن ثمّ رهانه على دمشق لعلّها تزيل صاعق التفجير الجاهز.

والحال أن الإعصار الخميني الذي انطلق مطلع 78 بدا مفاجئاً بكل المقاييس لنظام البعث، والذي استمر يمنّي نفسه طيلة ذلك العام بقدرة الشاه على جبهه وردّه، وحفزه على الاستجابة لرغبة الشاه الملحة بطرد الخميني من العراق في أكتوبر 78.

كانت حماقة الشاه بلا حدود، واستجابة بعث بغداد لطلبه تفيض، إذ أفلت من طوق الأمن العراقي، وانطلق يسبح في فضاء فرنسي صديق.

كان لسان حال الخميني، حال الخروج المهين من النجف إلى حدود الكويت، هو وعده بالبدء بالشاه والتثنية بالبعث .... والأيام شهود.

صدق أحمد حسن البكر بالذات، مؤيداً بمنيف الرزاز الأمين المساعد للحزب، في توجهه الراغب بإعادة توحيد شقي البعث وفي وحدة القطرين، معطوفاً على رغبته في تحجيم صدام ودوره وتأثيره، بما يكفل ألا يفيض دوره في دولة الوحدة عن مرتبة الرجل الثالث، إن لم تتح فرصة محوه من أساسه.

لم تغب الحكاية عن حدس صدام، فعاجل الجميع بهدمه معبد مشروع الوحدة على رؤوس بناته عازلاً رئيسه، صاحب الأيادي البيضاء عليه، ومتهماً الأسد بالتواطؤ لقلبه، ومردياً ثلث «رفاقه» في قيادة البعث ونظامه صرعى نيرانه.

وابتدأ الطور الثالث من عهد البعث: 80ــــ90.



* كاتب عربي