حمزة منصورقديماً، اقترح الفيلسوف المثالي الحالم أفلاطون كحل للاعدالة الاجتماعية، التي نخرت عظام مجتمعه اليوناني العريق، إعادة هيكلة هذا المجتمع على أسس وقواعد جديدة، فيصار أولاً إلى إعداد نخبة حاكمة في أكاديميات مختصة في تنشئة الحكام فتعلمهم الفلسفة الحكمة. وفي الوقت نفسه تم عزل هذه النخبة عن محيطها وإيصالها إلى وضع تتجرد فيه من كل العلائق المادية التي تربطها بمجتمع المدينة المادي، لدرجة لا يعود يحركها مال أو سلطان أو شهوة، إيثارها الوحيد بناء مدينة فاضلة كتلك التي راودت الفارابي يوماً ما.
فعلاً إنها وصفة معلّم، وكيف لا وأفلاطون معلم المعلم الأول أرسطو. فعلاً إنها النفس البشرية، هي نفسها، سواء كانت في زمن اليونان أو في زمن لبنان.
لقد شخّص أفلاطون الحالم الداء ووضع له (الجمهورية) الدواء ووافقه كثر وعارضه كثيرون، لكنها النفس أمّارة وطمّاعة. وذهب أفلاطون وذهبت معه روحه إلى حيث الآلهة لتعود فتسبح من جديد في فضاء العدم بين أجنحة الآلهة والملائكة فتنفحها من نعمتها وبركاتها وعدالتها. إنه لأقرارٌ أفلاطونيّ بالعدالة الموجودة في السماء والممنوحة من السماء، لا من الأرض ولا بين أهلها.
ولنعد إلى بلاد الآلهة، لبنان، حيث سكن بعل وأشمون وملقرت وزينون، وحيث تنزّهت بين مدنه وأريافه عشتار وأدونيس وهنيبعل وأوزيس، لنرى الآلهة هذه المرة تسكن الأرض لا السماء عكس ما قدمه لنا أفلاطون في أحلامه الجمهورية.
وماذا بشأنك أيتها العدالة الاجتماعية، صرنا حيارى، هل أنتِ في السماء أم في الأرض؟
من المؤكد أنكِ كنتِ مع آلهتكِ الفينيقية في ربوع الأرياف اللبنانية ولكن ومن المؤكد أنك رحلتِ برحيل آلهتك العظام وبقيت الأرياف هامدة إذ فارقتها روح آلهتك، أعني بها العدالة الاجتماعية.
هل نستطيع الآن استقراض وصفة أفلاطون الجمهورية لبلاد الآلهة اللبنانية حيث المساوئ الاجتماعية؟
المجتمع اللبناني بحسب الوصفة الأفلاطونية مقسّم إلى ثلاث فئات: الحكام، العمال، الجنود.
وحسب الوصفة نفسها أيضاً تتميز طبقة الحكام عن الطبقات الباقية بخصوصيتها ومميزاتها التي تمنع أياً من أبناء الطبقات الأخرى ولو بالتفكير بالعروج والانتقال إليها.
فكيف ستسمح إذاً هذه الطبقة الحاكمة لنفسها بترك احتكارها للسلطة إلى الغير من النشء الذين دعاهم أفلاطون إلى أكاديميته ليعدّهم للحكم، حيث الحكمة وحيث النعيم والهناء. فعندما يحكم الفلاسفة يزول بؤس الدولة وينعم الناس بالمساواة في ما بينهم.
طبعاً، لن تقبل هذه الطبقة الحاكمة حلاً كهذا، حتى لو جاء على لسان سقراط أستاذ أفلاطون نفسه.
نحن نلوم أفلاطون لأنه لم يقدم لنا نظرية كاملة نستطيع تطبيقها بالكامل، ففي جمهوريته ثغرة فاته ردمها، فهو لم يشر إلينا كيف نعمل عندما يرفض هؤلاء التنازل عن السلطة؟
لكن لماذا نلوم أفلاطون، لماذا لا نجترح نحن الحل ونردم التقصير الكامن في نظريته، فالقضية سهلة وبسيطة، وليس لا للفيلسوف ولا للفلسفة معالجتها.
هذه الطبقة الحاكمة لا تأتي من فراغ، تأتي من الديموقراطية، التي هي فكرة يونانية، حكم الشعب للشعب. فما عليك أيها الشعب إلا أن تقلع عن انتخابها فتذهب ويذهب معها ظلمها وغلاؤها ومساوئها، ونترك بعدها الأمر للأكاديمية الأفلاطونية لتبدأ في عملها على النشء في الفلسفة وعلوم الحكمة، علّه يزول بهم بؤس الدولة وشقاؤها.