إن فكّ حجز الضباط، بأمر من المحكمة الدولية، أحرج السلطات اللبنانية التي سمحت باعتقالهم. وقد تتعرّض الدولة اللبنانية إلى أكثر من إحراج خلال المرحلة المقبلة إذا تابع أسلوب رئيس لجنة التحقيق الدولية الأول (ميليس) تراجعه، وإذا استمرّ التساهل الرسمي مع مسألة السيادة القضائية
عمر نشابة
إن قرار إنشاء المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على مفاعيل استثنائية ـــــ قد تصل إلى حدّ فرض عقوبات اقتصادية أو حتى تدخل عسكري ـــــ بحقّ الدول التي لا تتعاون، لا يعني سوى لبنان. هذا ما أكده المساعد الخاص للمدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة لسيراليون جيريمي وايزر خلال محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركية في بيروت، تضمّنت مقارنة بين المحكمة الخاصة بسيراليون والمحكمة الخاصة بلبنان، وعرض الدروس التي يمكن استقاؤها. كلام وايزر الذي كان قد أكّده العديد من الخبراء القانونيين يشير إلى احتمال رفع المحكمة الدولية إلى مجلس الأمن شكوى عن عدم تعاون لبنان، ما سيعرّضه لعقوبات دولية. فإذا استمرّ عجز الدولة عن تعيين مساعد للمدعي العام الدولي بحسب ما ينصّ عليه نظام المحكمة، وإذا لم تصدر مذكرة التفاهم بين لبنان ومكتب المدعي العام الدولي التي تهدف إلى تسهيل تعاون السلطات الرسمية اللبنانية مع طلبات لاهاي، فقد تلجأ المحكمة إلى مجلس الأمن.

مأزق نيابة بلمار

«تُعيِّن الحكومة، بالتشاور مع الأمين العام والمدعي العام، نائباً للمدعي العام من لبنان لمساعدة المدعي العام في إجراء التحقيقات والملاحقات» (الفقرة الثالثة من المادة الثالثة) كما ورد في نصّ الاتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية بشأن إنشاء محكمة خاصة للبنان (المرفق بقرار مجلس الأمن رقم 1757). لكن بعد مرور نحو شهرين ونصف على انطلاق عمل المحكمة، لم تعيّن الحكومة نائباً (أو نائبة) للمدعي العام الدولي دانيال بلمار. وعلمت «الأخبار» أنه لم يتمّ عرض الموضوع أصلاً على مجلس الوزراء، وخصوصاً بعدما تعثّر توافق الوزراء على مذكرة التفاهم بين لبنان ومكتب المدعي العام الدولي، في المجلس كما في اللجنة الوزارية الخاصة التي شكلت للبحث في مضمون المذكّرة. على أي حال، كان لقرار قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين بفكّ حجز الضباط الأربعة بعد ثلاث سنوات وثمانية أشهر من الاعتقال، والذي أشار إلى «أن معلومات المدعي العام بخصوص الضباط لا تتمتّع بالصدقية الكافية لإصدار مضبطة اتهام بحقّهم»، يساهم بعرقلة تفاهم الوزراء على القاضي (أو القاضية) الذي سيتولى نيابة بلمار. فوزراء الأقلية النيابية الذين يشكلون الثلث الضامن (أو المعطّل) في الحكومة الحالية، والذين قد يتحوّلون إلى وزراء أكثرية نيابية في المرحلة المقبلة أو يحافظون بالحدّ الأدنى على نفوذهم الحالي في الدولة، سيعارضون تعيين قاض مقرّب من القاضيين سعيد ميرزا وصقر صقر في مركز نائب المدعي العام الدولي. فقوى الأقلية الحالية تحمّل ميرزا وصقر مسؤولية سجن الضباط «تعسفياً لأسباب سياسية»، وتطالب بمحاسبتهما. كذلك فإن هذه القوى لا تزال حذرة من احتمال نجاح ضغوط دولية على المدعي العام الدولي لدفعه إلى اتخاذ خطوات شبيهة بالخطوة التي كان الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس قد اتخذها في 2005 لناحية اشتباهه بعلاقة تربط حزب الله بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عبر الإشارة في تقريره إلى اجتماعات عقدت في الضاحية الجنوبية للتحضير لتنفيذ الجريمة.

لماذا لم يُعتقل أي ضابط سوري؟

قبل إنشاء المحكمة الدولية الخاصة للبنان وقع ما يدلّ، بحسب مسؤول قضائي لبناني رفيع، على «حتمية دفع الدولة اللبنانية واللبنانيين الثمن الأبرز للمحكمة الدولية». وشرح أن «الدولة التي تعجز عن حماية قادتها الأمنيين من الاعتقال من دون أن تعرض الأدلة التي تدينهم عليها هي دولة فاقدة للسيادة». وتابع المسؤول القضائي «ألم تسألوا أنفسكم، لماذا لم يُعتقل ضابط سوري واحد رغم الاتهامات الدولية والإقليمية والمحلية لسوريا بالضلوع في الجريمة؟».
الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس لم يتمكّن من توقيف ضباط سوريين رغم الجهود الدولية والأممية الاستثنائية التي بذلت آنذاك للإشارة إلى مسؤولية سوريا في وقوع جريمة اغتيال الحريري، بل اقتصرت «إنجازاته» في هذا الإطار على اعتقال أربعة ضباط لبنانيين من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية تعسّفياً بعدما تخلّت عنهم الدولة اللبنانية التي كانت قد عيّنتهم في مراكزهم. ميليس كان قد كرّر في تقريريه إلى مجلس الأمن خلاصة رئيس لجنة تقصّي الحقائق بيتر فيتزجيرالد أن «أجهزة الأمن اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية» (تقرير لجنة تقصّي الحقائق 24 آذار 2005). كما ذكر أسماء ضباط ومسؤولين سوريين ومعلومات عن تحضير أداة الجريمة (الشاحنة المفخخة) في مركز عسكري سوري في تقريره الأول. ولعلّ أبرز ما ورد في هذا الإطار كان في نصّ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1636 (31 تشرين الأول 2005) بحيث عبّر المجلس عن «بالغ القلق» من «الاستنتاج الذي خلصت إليه اللجنة، ومفاده أن هناك التقاء في الأدلة يشير إلى ضلوع مسؤولين لبنانيين وسوريين على السواء في هذا العمل الإرهابي» (الفقرة الثانية). وأضاف «أن عدة مسؤولين سوريين حاولوا تضليل اللجنة عن طريق إعطاء معلومات مغلوطة أو غير دقيقة» (الفقرة الخامسة). وأثنى القرار «على السلطات اللبنانية لما اتخذته بالفعل من قرارات شجاعة تتعلّق بالتحقيق بما في ذلك بصورة خاصة قرارها، بناءً على توصية من اللجنة، اعتقال المسؤولين الأمنيين اللبنانيين السابقين المشتبه في ضلوعهم في هذا العمل الإرهابي، وتوجيه الاتهام إليهم». كذلك «شجّع» مجلس الأمن «السلطات اللبنانية على مواصلة جهودها بنفس الإصرار من أجل كشف كلّ خفايا هذه الجريمة» (الفقرة التاسعة). وطلب القرار من سوريا «أن تعتقل المسؤولين أو الأشخاص السوريين الذين تعتبر اللجنة أنه يشتبه في ضلوعهم في التخطيط لهذا العمل الإرهابي» (الفقرة الحادية عشرة).
قرار قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين فكّ حجز الضباط الأربعة فوراً وبدون شروط (29 نيسان 2009) يدلّ على عدم تمتّع المعلومات التي قدّمها ميليس إلى مجلس الأمن بالصدقية. لكن بغضّ النظر عن عدم صحّة ما ورد في نصّ القرار 1636 لناحية اتهام الضباط الأربعة، إذ إن قراراً اتهامياً لم يصدر بحقّهم طوال مدّة احتجازهم. وبغضّ النظر عن منح قرار مجلس الأمن رقم 1644 (15 كانون الأول 2005) لجنة التحقيق صلاحيات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لم يتم توقيف أي ضابط أو مسؤول سوري عام 2005. ومع تولي القاضي البلجيكي سيرج براميرتس رئاسة لجنة التحقيق الدولية مطلع 2006 تغيّر مضمون التقارير المرفوعة إلى مجلس الأمن. وأشارت التقارير التسعة (آخر تقريرين خلال تولّي بلمار رئاسة اللجنة) التي تبعت التقريرين الأوّلين للجنة عن تعاون السلطات السورية مع اللجنة. وتلازماً مع ذلك، لم يعتقل أحد في سوريا، ما يعني أن اللجنة لم توص باعتقال سوريين أو أشخاص موجودين على الأراضي السورية.


مشكلة التعيينات

إضافة إلى تعثّر تعيين نائب للمدعي العام، تعاني المحكمة الدولية من مشكلة تبدو أكثر تقنية تكمن في صعوبة ملء عدد من الوظائف العشر التي ما زالت شاغرة. فمن بين هذه الوظائف، أربع أعيد الإعلان عنها (RE-CIRCULATION) لاستقطاب الطلبات بعد عدم استيفاء الشروط المهنية والقانونية الكافية للذين تقدموا بطلبات التوظيف خلال المرحلة السابقة. ومن بين هذه الوظائف، خبير في الأدلة الجنائية المخبرية (FORENSIC EXPERT) ومحلّل معلومات (INFORMATION ANALYST). كذلك تعاني المحكمة من صعوبة ملء الشواغر الوظيفية الخاصة بالترجمة اللغوية. وكانت تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة قد أعلنت سابقاً نقصاً لافتاً في فريق الترجمة اللغوية، وبما أن معظم المحققين من جنسيات أجنبية تحوّل هذا النقص إلى مشكلة جدّية. وفي هذا الإطار ساهم إتقان الضابط الأوسترالي من أصل مصري نيك (نجيب) كالداس (الصورة) للغة العربية في اختياره رئيساً للمحققين في مكتب المدعي العام.