كامل الصباغبسرعة الضوء، تعود بي أفكاري إلى الوراء لتبحث عن جذور تلك النفحات الوجدانية التي يسمّيها البعض الرجعية والبعض الآخر ثقافة الموت والدمار والمغامرات، التي بدوري أصرّ على إعطائها وصف عقيدة وجهاد وأصولية حقّة... (أي بالعودة إلى الأصل المشرّف).
تعود بي الذاكرة إلى طفولتي وإلى جرعات البطولة والصمود التي كنت أتلقّاها عبر الجلسات العائلية والصحف اليومية، التي كان محورها الرئيسي حركات المقاومة والتحرّر ونضال الشعب العربي ضد الاحتلال الصهيوني وعملائه، وخاصة في العمق الفلسطيني وعلى حدود فلسطين المحتلة المسماة حينها دول الطوق، والتي كانت تكملها خطابات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث كانت ترتسم في مخيلتي أجمل مشاهد الانتصار والعز كأنني بها كنت أتنبّأ بنصر أتى بعد أربعين عاماً من اللوعة وحرقة الانكسار.
في ذاك الزمان، زمن طفولتي، كانت بيروت بأهلها وناسها، حين يتكلمون عن العدو، يكون القصد الإشارة إلى الصهاينة جزماً وتحديداً وجهاراً، وحين يسألون عن الحياة تكون إجابتهم حاسمة ومدوّية: «نعيشها... لكن بكرامة»، وحين تُمَسّ الكرامة، ترتفع قبضاتهم لتمنع الجور والظلم. هكذا أذكر بيروت، حين كانت تأبى أن يُظلم بشر أو حجر على أرضها، أو أن تُحكم بالعصا ورزم المال، أو أن يبتلع أرضها حاكم أو كائناً مَن كان، رحمنا ورحمها الله.
لقد أجهز سلاح العوز الفتّاك المستورد على ما تبقى من مآثر وحكم وحكمة في ذاكرتنا، حتى أصبحنا فرقاً ندر فيها مَن خاف الله وعمل صالحاً وصبر وصابر.
لكنه رغم ذلك، يبقى «أبو عبد البيروتي» رمزاً لنفسه كممثل قدير بدوره، كشخصية فنية فكاهية، واللبس بينها وبين بيروت وأهلها خطأ غير مسموح به، ولو كان أصحاب المروءة والشهامة قد تغاضوا لسبب أو لآخر، لكننا نهيب بأصحاب العلم والمعرفة الرجوع إلى التاريخ الذي ينصف أهل بيروت، أهل التقوى والورع، أهل المقاومة والمواقف الجريئة منذ مئات السنين، والسلطان صلاح الدين يشهد بذلك بعد الله.
إذ لم نعهدهم يوماً طلاب «شوكولاته» أو «أركيلة» كما يزعم أصحاب الفكاهة، بل رجالاً أشداء يدافعون بإيمان عن عقيدتهم وشرفهم وأرضهم خير دفاع.
قد تكون بيروت مكبّلة وعاجزة اليوم عن الرد والانتفاض على مزوّري تاريخها من جميع الاتجاهات والألوان، «ما حدا قصّر فيها». فالجميع شمّر عن... لسانه وجيّرها لمصلحته حتى أصبحت كالفتاة التي لا حول لها ولا قوة وسط عشرات المغتصبين، و«معتصماه» المنقذ لم يعد له من أثر في حياتنا السياسية.
تارة يظهر نجم الساحة يزعم زعامتها، وتارة شيخ يخاف ثلاثة: الفقر والموت وسوريا، فيجيّر صمته لنجم الساحة ليجيب عن مخاوفه، فيثور آخر غيظاً ليحرم أهلها ميراث أجدادهم تحت شعار «ما لنا لنا وما لكم لنا... ولكم»!
بيروت الشريفة الطاهرة لأهلها وأبنائها، وميلها ميل زحلة وطرابلس وصيدا والنبطية، ترحب بأهل وطنها جميعاً دون استثناء، ضيوفاً أعزّاء، رفاق نضال ومقاومة: إخوة في وطن واحد عانى الكثير واكتفى أضاليل وإلهاءً وعمالة وإفقاراً و«نكايات».
إلى بيروت العربية المناضلة وترابها الذي يحوي عظام أجدادي وأشراف أهلها وشهداء قضيتها الكبرى فلسطين، أهدي وعدي ما حييت، بأنه لن يهدأ لي ولذريتي من بعدي بال إلا ولبنان كله مقاومة، تماماً كما يأمل أبو هادي نصر الله وكما يحلم به الحاج عماد مغنية ومن قبلهم عبد القادر قليلات (أبو شاكر) وخالد علوان والنهر الجارف من السلف المناضل. «فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلاً».