نهلة الشهالإنه نتنياهو. والمضاربات تدور حول زيارته الرسمية الأولى لواشنطن باراك أوباما. ومادة المضاربات هي «حلّ» الدولتين. وكأن الحلّ متوقف على نطقه بالكلمة السحرية: أَقبل! وكأن «حلّ» الدولتين ما زال قائماً واقعياً. انظروا كيف يشوّق ملك الأردن إسرائيل كي «تقبل». فحسب ما ورد في خطابه الافتتاحي للمنتدى الاقتصادي العالمي الخاص بالشرق الأوسط، في البحر الميت، قد تعترف 57 دولة عربية وإسلامية بإسرائيل إذا «قبلت» المبادرة العربية. يا لموسم الحسومات! وإيهود باراك يطمئن العالم إلى أن نتنياهو «سيقبل» في النهاية «بشعبين يعيشان جنباً إلى جنب بسلام واحترام متبادل»، (هل هذه دولة فلسطينية؟). أما جورج ميتشل، مبعوث الرئيس أوباما الخاص للمنطقة، ومهندس المصالحة الإيرلندية كما يعرّف دوماً، تعزيزاً لصدقية خبرته في هذا المجال، فيقول متفائلاً وواثقاً من خبرته تلك، إن نتنياهو «سيقبل»، كما سبق لشارون أن قبل بخريطة الطريق التي تتضمن حل الدولتين (ثم ماذا حدث؟؟).
فقبول أو رفض ماذا؟ ووفق أي معايير؟ ما يجري التكهن به، وما يجري التفاوض بشأنه من تحت الطاولة، لم تعد له ضوابط من أي نوع كان: لا القانون الدولي، كما تعبّر عنه قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، ولا حتى الاتفاقات الموقعة من ضمن مسار «العملية السلمية» نفسها، بما فيها خريطة الطريق الأخيرة تلك. فإذا ضاع المقياس كما هو حادث، وغابت ركائزه السياسية والقانونية، تصبح القضية بازاراً مفتوحاً. ولا يعود شيء يمنع نتنياهو من الأمل بأن نظرته هو للحل، المستندة إلى توفير شروط حياة لائقة اقتصادياً للفلسطينيين ـــــ من يبقى منهم بعد القتل، والتضييق، والدفع إلى المغادرة «الطوعية» (يا لسحر الكلمات) ـــــ كافية وممكنة.
يقول ميتشل إن المطلوب من نتنياهو أن «يقبل» بداية صفقة تسمح بموجبها الدول العربية للطيران التجاري الإسرائيلي بعبور فضائها، وتتبادل بموجبها التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، وتوقف الدعاية المعادية لها في وسائل الإعلام وفي المناهج التدريسية، مقابل... تجميد بناء المستوطنات! من المؤكد أن ميتشل لم يستخدم مثل هذا التوازن الهندسي في تعاطيه مع المسألة الايرلندية، وإلا ما سجلت في الـCV العائد له. ثم يقول إن الولايات المتحدة غير مستعجلة في التوصل إلى عناصر التسوية الممكنة، حتى لا تحرق المراحل، لكن الرئيس أوباما مصمم على تحقيقها في نهاية ولايته الحالية، أي بعد أربع سنوات. يضحك الإسرائيليون في عبّهم، فالوقت المتاح أمامهم، وما يحمله آتي الأيام من تغيرات غير قابلة للحساب، يحرر أيديهم. ولا بأس من كلام سيبقى حتماً ملتبساً. بل ما أسهل إخراج أرنب من القبعة من مثل «القبول» بتفكيك المستوطنات «المتوحشة» أو ما بات يقال له «غير القانونية»، ليس فحسب لأنها كذبة كبيرة (فلا ما يُفكّك ولا من يفككون)، لكن لأنها من باب آخر تُرسي مفهوماً خطيراً، يصبح اعتيادياً، هو وجود مستوطنات شرعية وقانونية. وإذا كان أوباما يحتاج إلى بادرة ايجابية اليوم، ولا سيما قبل خطابه من القاهرة إلى العالمين العربي والإسلامي في 4 حزيران المقبل، فقد «يقبل» نتنياهو بالتنازل له عن المستوطنات «المتوحشة»، بينما تنجز خلال الأسابيع القليلة المقبلة خطة توسيع مستوطنة معالي أدوميم وربطها بسواها، لتقطع الضفة الغربية نهائياً إلى قسمين بلا أي تواصل، ولتعزل القدس بإحكام تام عن الضفة الغربية. يسمي نتنياهو هذا: «النمو الطبيعي» للمستوطنات. ومن المؤكد أنه سيستفيد من نصائح الثعلب العجوز، شمعون بيريز وخبرته (وهذا ليس «متطرفاً»، بل يتقاسم جائزة نوبل للسلام على اتفاقية أوسلو)، الذي التقاه مراراً قبل سفره، مذكراً إياه بأنه ليس من «جمرك على الكلام». وفي الأثناء، تنتظم المقاومة في تل أبيب، ويهدد «الصقور» بالتمرد على نتنياهو إذا ما فرّط، فقبل بما هو غير مقبول.
ما المقبول؟ حين صوّت المجتمع الإسرائيلي بأغلبيته الساحقة لنتنياهو، وحمل ليبرمان إلى الموقع الثاني، سجل انتقاله من مرحلة الكذب الأولى تلك، التي مارسها بيريز، إلى مرحلة جديدة، أو هو بالأحرى استنفد أغراض تلك المرحلة. واليوم سيقترح نتنياهو على أوباما لجان عمل مشتركة، أميركية ـــــ إسرائيلية، تتبنى «نظرة شمولية مترابطة»، (وهذا عادة منهج يساري وتحرري): تنتج تلك اللجان خريطة طريق جديدة (فلا أحد ضد العمليات السلمية!) على أن يكون إطار التفاوض شاملاً للدول العربية المعتدلة، وتنتج استراتيجية للتعامل مع إيران! أما ليبرمان، وهو رغم حماقته، نائب الرئيس ووزير الخارجية، فيعترض قائلاً إنه ينبغي البدء بتعيين سقف زمني للإنذار المرتقب إلى إيران هو... غداً (قال آب المقبل).
أما الفلسطينيون، ففي مرحلة معاكسة تماماً. هم تملّكوا عصفوراً في سالف الأيام اسمه الوعد بـ«دولة فلسطينية». ثم نُتف ريشه، وأُسيئت معاملته، واحتُضر، ومات، وتحللت جثّته. لكن صورته يوم سلم لهم في حديقة البيت الأبيض ما زالت بحوزتهم. وهم متمسكون بها، وقد نسوا أن هناك عصافير أخرى على الشجر، وأن الباري وحده يحيي العظام وهي رميم.