هشام نفاع *كان ذلك الصباح الذي داهمته ذكرى «استقلال إسرائيل» ثقيل الظلّ والوطء والأثر. صباحاً هادئاً وصيفياً. الدرجات النازلة من سفح الكرمل، الذي تتكئ عليه حيفا حتى مشارف حيّ وادي النسناس العربي الباقي، شبه خالية. المحال مقفلة ولا ترى سوى قلائل خرجوا إلى هذا النهار، معظمهم من مهاجري العمل الآسيويين.
نزلتُ مبكراً، على أمل الفوز بفنجان قهوة في أحد المحال الجانبية، وإشباع فضول المشاهدة، لكن خطتي فشلت. مع أنه يُفترض بهذا اليوم، وفقاً لكميات الإيديولوجيا الصهيونية التجاريّة المقيتة المتلفزة، أن يكون احتفالياً وأن تكون المقاهي القليلة التي بقيت في هذه المنطقة، والتي سلبت مراكز التجارة العملاقة زبائنها منها، مشرعة الأبواب للمحتفلين، ولمن يرغب مثلي في فنجان قهوة سوداء في هذا اليوم الأسود بالذات... لكن يبدو أن أصحاب المقاهي الشعبيّة تعاملوا مع المسألة كيوم عطلة لا أكثر. قبل ذلك بيوم، كنتُ في تل أبيب. تأخّر اجتماعنا العربي ــــ اليهوديّ ذو المضمون المعادي للصهيونية عن سابق إصرار وترصّد، لكننا كنا مهمومين من مجرّد فكرة السفر في شوارع هذه المدينة المحتفلة المتضخّمة فوق بيوت قرية الشيخ مونس المهجّرة وأخواتها. مرّت المسألة على خير. لا من يحتفلون فعلاً، ولا من يفرحون ولا من يحزنون، في مسار تحاشينا آفة الاستقلال الصهيونية.
صباح ذلك الأربعاء، وصلتُ حيث تجمّع المسافرون والمسافرات إلى مسيرة العودة، وانشرح القلب لرؤية الحشد. جاؤوا جميعاً ليتوجّهوا إلى قرية «الكفرين» المهجّرة، لصنع نقيض نضالي ليوم استقلال إسرائيل وابتداعه وفرضه. جاؤوا جميعاً لإحياء ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني التي لن تفارق ولن «تحلّ عن» احتفالات إسرائيل.
في الكفرين، القرية الفلسطينيّة التي بلغ عدد أهلها قبل اقتلاعهم الإجرامي عام 1948 نحو ألف إنسان، لا تزال أشجار الزيتون والصبّار والتين والرمان تحمل جذور حضورها. لم يعد هناك الكثير من معالم القرية. لكن الشجر ظلّ يحرس التلال التي كانت مرة تعجّ بالحياة وباتت اليوم مسرحاً لجريمة.
في الموقع الذي امتلأ بآلاف المشاركين، رفرفت أعلام فلسطين، ورُفعت لافتات تحمل أسماء قرى فلسطين المهجّرة. إحدى الصديقات، من قرية «برعم» المهجّرة، ناولتني لافتة تحمل اسم قرية «البصّة» المهجّرة، وبعد دقائق علّقتها على السياج الفاصل بين الأرض المشاع وما حوّلته مؤسسة الجيش الى حقل ألغام. إحدى بنات قرية البصّة، التي لم تولد فيها لكنها لا تزال قريتها، على لسانها وفي قلبها، فرحتْ باللافتة وصوّرتها. فقامت عفوياً بفعل توثيق رقميّ خاطف خالص يعيد شيئاً من المعنى، أو يحفظ له حضوراً تاريخياً متواضعاً على الأقل. فنحن هنا، ندير المعركة على وجه التاريخ من قلب الحاضر، بكثير من الأمل رغم شحّة التوقعات. وتحياتي إلى الرفيق غرامشي. نعم، تفاؤل الإرادة (رغم) تشاؤم العقل.
مسيرة العودة باتت حدثاً سنوياً يشارك فيه آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات، إحياءً لذكرى نكبة فلسطين، ومعهم عدد قليل من المواطنين اليهود، ممّن يحمل ضميرهم وزناً نوعياً يفوق وزن الكذبة الصهيونية القاتلة المدجّجة بالعتاد والسلاح، الخفيف منه والثقيل، الأرضي منه والجوّي والبحريّ. في العام الماضي، الذي صادف 60 عاماً على الذكرى، انعقد الحدث في قرية «صفورية» المهجّرة. يومها هاجمت الشرطة المشاركين واعتدت عليهم بقنابل الغاز وبالضرب بالهراوات وداست بعضهم بحوافر الخيول. كان لافتاً هذه السنة أن الناس تعاملوا مع ما جرى في صفورية بنوع نوعيّ من التحدّي. فقد كان بالإمكان رؤية مشاركات ومشاركين من مختلف البلدات والأجيال، كانت هناك عائلات جاءت بأكملها، وكأنهم جميعاً يقولون: الضربة التي لا تميتك تزيدك قوة... افرح إذاً يا رفيق لينين. عبرتك ما ضاعت رغم توحّش استعمار رأس المال وإمبرياليته. لستُ متأكداً من أنك ستجد عزاءً كافياً في هذا، لكنك لو شاركت في المأساة / الملحمة الفلسطينية، لكنت ستكتب مقالة ربما يكون عنوانها «جدلية ثلاثية: قتامة الظّرف، صعوبة الممارسة، وتوهّج الأمل». كنت ستحتاج يا رفيق إلى أداة تحليلية جديدة واحدة، لربما كنت ستسمّيها: «حلاوة الروح». لا أعرف إن كانت لديك هذه العبارة بالروسية، ولكن لا بأس لو اقتبستها من العربية الفلسطينية. فقد أثبتت هذه اللهجة براعتها في الإنتاج، التصدير، التسويق والمضاربة في فضاءات الأبجدية. لاحظْ كيف أثرَت لهجتنا الفلسطينية لغات جميع الشعوب بمفردة «انتفاضة» مثلاً. لقد اتّسعت ألسُن البشر بمفردة بهيّة لامعة نبيلة صلبة كالصخر وناعمة كالندى الذي يغلّله في الفجر فجر يظلّ يعود يومياً مهما اشتدّت العتمات.
سنظلّ نحلم يا رفيق، وحتى لو كانت «مركبة الدّني مشلولة وعمبتجرّها عقول الحمير»، فنحن حمير من صنف مختلف. نحن حمير من صنف أصيل. لربما فُقنا الخيول. نحن الحمير الذين يحملون ملَكة الصّبر. هل سمعت عن كنية الحمار «أبو صابر» يا رفيق لينين؟
بالمناسبة، ليست مفردة الانتفاضة وحدها هي التي استضافتها لغات الشعوب. هناك مفردة أخرى فرضت نفسها، بوقار شديد وشرعيّة أشدّ، هي مفردة النكبة.
قال محمود درويش: «الأرض تورث كاللّغة»، وفي قلب التاريخ الذي يلعب لعبته من خلال إرادات أبنائه وبناته وسواعدهم، يصرّ هؤلاء على إسقاء أملهم يومياً، مع أن الأرض صخريّة صوّانية. ومِن دون أن يدري أحد كيف يحدث كل هذا، تنبت من بين أيديهم وردة شائكة العِرق. ممتلئةً بالحياة، تروح تنثر عبيرها في مسارب ذاكرة زارعيها، بينما ترسل شوكها الواخز اللاسع في خندق من خنقوا بذور أمها على مدار عقود طويلة. شوك الوردة ليس فعلَ إرهاب طبعاً، ولا عتاداً لعملية تخريبية... بل إنه الفعل العلاجي الضروري لإنعاش جمر الحقّ ولإيقاظ المجرمين الثملين بسطوة قوّتهم منها. وهنا، ما يطمئن في الأمر أنه ليس هناك أية دبابة قادرة على منازلة شوكة وردة. ستظل هذه تلسع وتخز وتغزّ وتؤلم جسد الدبّابيّ إلى أن تحلّ عليه اليقظة.
* صحافي فلسطيني