عصام العريان *حلت علينا ذكرى ضياع فلسطين وسط ضياع عربي شبه كامل. ويحتفل الكيان الصهيوني ببدء عام الـ62 لاغتصابه أرضاً ووطناً من يد أصحابه، وسط أجواء ملبدة بالغيوم وتساؤلات عن مستقبل هذا الكيان الغاصب. بدأت هذه التساؤلات منذ 5 سنوات تقريباً، ولخصها تساؤل على غلاف مجلة «النيوزويك» الأميركية الأسبوعية عن «مستقبل إسرائيل». المشهد الصهيوني يعرف تغيراً لا تخطئه عين، فهناك تراجع في الفكرة الصهيونية وتعزز لظاهرة «المؤرخين الجدد» الذين يعترفون بالمجازر الصهيونية البشعة ضد الفلسطينيين. هناك الانجراف الشديد نحو اليمين الموغل في التطرف الذي يهدد علاقة الكيان الغاصب بأوروبا وأميركا للمرة الأولى في تاريخه، وينذر بتوتر يتصاعد مع الوقت بسبب رفض الحكومة الحالية لحل الدولتين، ومع هجرة قدمت من روسيا بأعداد ضخمة (مليون ونصف تقريباً) وأخرى أفريقية وهندية، غيرت التركيبة السكانية، ونمو ديموغرافي سكاني متزايد للعرب الفلسطينيين أعاد إلى الأذهان من جديد رغبة جارفة في تهجير العرب خارج الدولة، بما يعني تحويلها إلى دولة يهودية صرفة كما يطالب ليبرمان ونتنياهو، وأيّدهم بوش الابن من قبل.
يريد الصهاينة مجتمعين (أولمرت وباراك من قبل، والحكومة الحالية الآن، ورئيس دولة العدو)، اعترافاً رسمياً ورضوخاً فلسطينياً يضمن الرضى والقبول بيهودية الدولة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أموراً ذات بال:
1ــــ إلغاء حق العودة وشطب كل القرارات الدولية التي أقرته حقاً فردياً بعدما شُطبت كل القرارات الدولية المتعلقة بقضية فلسطين، بدءاً بقرار التقسيم وقرارات أخرى متعلقة، والقرار باعتبار الصهيونية إحدى صور العنصرية، وغيرها.
2ــــ توطين ملايين اللاجئين الفلسطينيين فى مواقع وجودهم الآن، ما يعني تغييراً سكانياً خطيراً في بلد مثل لبنان، ووجوداً قلقاً ينذر بانقلاب شامل في بلد كالأردن، وتهديداً للاستقرار في بلاد مثل مصر وسوريا وبلاد الخليج كلها.
3ــــ تهجير وطرد نحو مليون ونصف مليون فلسطيني مقيمين الآن في فلسطين 1948، وسحب الجنسية الإسرائيلية منهم فى إطار عملية تبادل أراضٍ ستحصل بين الكيان الغاصب والسلطة الفلسطينية، ويمكن أن تهدد باستقطاع أراضٍ من سيناء لمصلحة مثل ذلك الحل التاريخي لاستيعاب من يريد العودة إلى فلسطين لا إلى أرض الأجداد والآباء.
4ــــ تأجيج الصراع إلى ما لا نهاية وتأجيل أي حلول سلمية، لأن رفض هذا الحل سيكون واضحاً من كل فصائل المقاومة وكل الشعب الفلسطيني تحت الحكم الصهيوني وغالبية الدول التي بها كتل سكانية فلسطينية، وخاصة لبنان والأردن وطبعاً مصر التي ترفض قطعياً أي مساس بسيناء لحساب العدو الصهيوني ولو كان في صورة حل تاريخي لقضية مؤلمة كفلسطين، لأنه يعني استمرار بؤرة صراع دائمة فى خاصرة مصر الشرقية وتهديداً للأمن والاستقرار في مصر.
على الجانب الآخر، نرى المشهد الفلسطيني مرتبكاً، وفى أسوأ حالاته من الانقسام وضياع البوصلة وفقدانها.
فالسلطة انتهت إلى لا شيء وإلى فراغ في مقاعدها، ووُظّفت بذكاء لمدة 15 سنة لمصلحة مزيد من الاستيطان، وتحويل أرض السلطة في الضفة وغزة إلى سجن ضخم يتحكم فيه العدو دخولاً وخروجاً وتمويناً وغذاءً واقتصاداً وسياسة. والمقاومة مجهدة ومتعبة ومحاصرة وخطوط إمدادها منقطعة، والعرب تخلّوا عنها، والسلطة تحاربها بالاعتقالات والسجون والتشويه المستمر، والعالم كله يقف ضدها ويتهمها بالإرهاب، ويريد منها الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين حتى تسير في الطريق نفسه الذي سارت عليه منظمة التحرير الفلسطينية من قبل، والبعض يريد توظيفها لمصلحة قضايا أخرى. ويصعب عليها في ظل الحصار والتضييق تمييز الخبيث من الطيب ورفض اليد الممدودة لها بالعون.
المشهد العربي في حالة ضياع شبه كامل: الدولة الوطنية المأزومة وصلت إلى طريق مسدود، والحكومات استبدلت الخطر الإيراني بالخطر الصهيوني، والعدو يعلن بصفاقة شديدة أنه، للمرة الأولى، تتفق الرؤية الصهيونية مع الرؤية العربية بشأن مصدر التهديد والخطر، وهو إيران وملفها النووي، ما يعطي الدولة الصهيونية غطاءً سياسياً لضرب إيران كما ضربت العراق من قبل، وبرضى وتأييد عربي وليس بمجرد الصمت.
لقد رفض السلطان عبد الحميد الثاني قبل مئة سنة هجرة اليهود إلى فلسطين، ثم رفض إعطاء وعد لليهود بوطن قومي، فكان جزاؤه الخلع والإبعاد، ثم إلغاء الخلافة والسلطنة كلها، ثم تقسيم التركة العثمانية وتجزئتها والإبقاء على دولة تركية تقطع كل صلة لها بالإسلام. وكانت الخطوة التالية هي قطع الطريق على الحلم بدولة عربية واحدة أو خلافة عربية للمسلمين وإضعاف مناعة الأمة العربية والإسلامية بالتغريب تحت وهم التحديث وعمليات أشبه ما تكون بإضعاف جهاز المناعة الإسلامية في الشعوب عبر سياسة تعليمية جديدة، وتدمير أخلاقي متعمد، وتبشير وتنصير في الأطراف، وإقامة حكومات ونظم سياسية حارسة للكيان الصهيوني تعلمت الدرس التركي، حتى صرح أحد رموز مصر التاريخية مصطفى النحاس بإعجابه الشديد بالزعيم التركي مصطفى كمال مؤسس تركيا الحديثة، وكان السادات يعلق صورته على جدار بيته. وأُلغي دور الشعوب تماماً بإلغاء الديموقراطية والحكم النيابي والحياة الدستورية وتداول السلطة في كل البلاد العربية والإسلامية تقريباً.
ويدرك الجميع أن إرساء الديموقراطية في بلادنا يعني إلغاء الوجود الصهيوني في فلسطين، ليس بسبب الشروع في حروب فورية كما يتصور البعض ويروّج المنهزمون، بل لأن نهضة حقيقية ستبدأ مع إطلاق الحريات وتحمل الشعوب مسؤوليتها، وسيصبح هناك تنمية حقيقية وتعليم سليم ورعاية صحية حقيقية وجيوش قادرة على الدفاع والحماية والردع لكل تهديد للأمن القومي العربي، ورفض شعبي جارف لبقاء هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين، ودعم كامل لحقوق الشعب الفلسطيني واحتضان تام للمقاومة الفلسطينية وإمدادها بكل صور الدعم والإسناد، وتهديد للمصالح الأميركية والأوربية والعالمية التي تحتضن العدو الصهيوني.
وقد يقول قائل: وهل يعني ذلك إلا إعلان حرب من الطرف الآخر علينا؟ والجواب هو: أليس من حقنا الدفاع عن وجودنا في قضية عادلة، ورد الحرب، والاستعداد التام لذلك؟ لقد سقط الحكام في امتحان القضية الفلسطينية خلال مئة عام، وجاء دور الشعوب لإكمال مسيرة التصدي لهذا المشروع الاستيطاني المدمر للمنطقة كلها. وعلى الشعوب أن تسترد حريتها وإرادتها بالإصرار على الإصلاح والتغيير بدءاً بأول الطريق: إطلاق الحريات. بالإيمان والجهاد والتضحية والصبر ووحدة الأمة والحرية، حرية الشعوب التي تعني حرية الإرادة وتعني في النهاية تحرير الأقصى والقدس واسترداد فلسطين. ويسألون متى هو: قل عسى أن يكون قريباً.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر