هم طلاب هاجروا طلباً لفرص أفضل في العلم والعمل، فعلقوا في شرك صعوبة الغربة. يثابرون لتحقيق أهدافهم، بينما تتسلل إلى أحاديثهم حسرة على ظروف الوطن الطارد الذي أجبرهم على الرحيل
برلين ـــ محمد فرحات
الطموح إلى تحصيل العلم في بلد متطور، التعرف إلى ثقافة جديدة، شحّ فرص العمل في الوطن بعد التخرج، محدودية الخيارات لناحية الاختصاصات المتوافرة في الجامعة اللبنانية، وعدم القدرة المادية لتغطية نفقات الجامعات الخاصة، إمكان العمل إلى جانب الدراسة لتحقيق الاستقلالية بعيداً عن سلطة الأهل أو لتخفيف العبء المادي عن هؤلاء، هذه الأسباب وغيرها أدت بعدد كبير من الشباب اللبناني إلى الهجرة طلباً للعلم. في برلين، يتحدثون جميعاً عن التجارب الغنية التي مروا بها، رغم بعض آمالهم التي أُحبطَت.
«كنت في سنتي المدرسية الأخيرة، فرع العلوم العامة، حين عرض عليّ أخي المقيم في برلين فكرة أن أُكمل تعليمي هنا»، يقول رامي مضيفاً، «لم ترقني الفكرة في البداية، فالغربة صعبة كما كنت أسمع، وسأضطرّ إلى تعلّم لغة لا أعرف عنها شيئاً، إلا أن اقتراب الامتحانات الرسمية جعلني أفكر جدياً: ماذا بعد البكالوريا؟».
غيّر رامي رأيه ما إن تراءى له شبح قلة مجالات الاختصاص في الجامعة اللبنانية وغلاء أقساط الجامعة الخاصة، بالإضافة إلى شحّ فرص العمل في لبنان.
هكذا، اقتنع بفكرة السفر ما دمت «يمكنني أن أعمل وأن أتابع دروسي الجامعية في آنٍ معاً، بينما ترتفع نسب إمكان إيجادي لفرصة عمل جيدة بعد التخرج».
لكن الأفكار والآمال تبقى أجمل بكثير من الواقع. ففي ألمانيا، ارتطم رامي بحاجز البطالة المستشرية بين الأوروبيين أنفسهم، إذ يروي قائلاً: «اتّضح لي أن إيجاد وظيفة لم يكن بالسهولة التي تخيلتها، واكتشفت أن الاستقرار في عملٍ واحد غير ممكن هنا».
أدّى هذا الواقع إلى تنقله بين الكثير من الوظائف، حيث عمل بتقطّع في عدد كبير من المجالات، بينما ظل «مدخولي لا يكفيني في أحيان كثيرة، فأضطر إلى أن آخذ قرضاً لكي أصمد».
م. أ، الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملاً، وفد إلى برلين من شمال لبنان. يبدأ من النقطة التي توقف عندها رامي، مردفاً أنه اضطر إلى الاستدانة خلال الفترة الأولى من وصوله إلى برلين منذ سبع سنوات: «في أول سنة لي في برلين وصلت ديوني إلى حوالى ثلاثة آلاف يورو، إذ لم يكن ما أجنيه من عملي يكفيني مصروفاً شخصياً. وقد أثّرت هذه الصعوبات المادية على دراستي بشكل كبير».
فالطالب يظل غريباً، و«الأحوال لا تسلك» إلا إذا تحوّل إلى «ابن بلد»، هذا ما اكتشفه.
أما الحلّ، فـ«تزوّجت شابة ألمانية، فأصبح لدي حق الإقامة الدائمة، وبعد ذلك حصلت على الجنسية الألمانية، ما أسهم في حل المشكلة، إذ أصبح من حقي الحصول على منحة توفّر لي مصاريفي الأساسية، ولو لم أكن أعمل». بالإضافة إلى الاستقرار المادي الذي وفّره له الزواج، حظي م. باستقرار معنوي لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما أدى الصدام الثقافي بين الزوجين إلى الطلاق. فقد «اصطدمنا باختلاف عقلياتنا وتقاليدنا، ما أدى إلى عدم اتفاقنا على طريقة تربية الأولاد إذا ما رُزقنا إياهم في المستقبل»، كما يروي م.
لا يتردد الطالب الشمالي في التعبير عن ندمه، إذ يقول بحسرة: «لو بقيت في لبنان لحصلت على الإجازة الجامعية بعد أربع سنوات، ولكان بإمكاني بعد ذلك السفر إلى فرنسا مثلاً، لكي أتابع علمي وأحصل على دكتوراه تمكّنني من إيجاد وظيفة محترمة في لبنان، وكان وقت الغربة سيقتصر على ثلاث سنوات فقط. أما الآن، فعندما أنتهي من تخصصي في الهندسة الكهربائية لن أستطيع العودة فوراً إلى لبنان، نظراً لعدم وجود فرص عمل في هذا المجال».
على عكس م. ترى ليلى أنّ من الأفضل لها أن تتزوج رجلاً ألمانياً «شرط أن يعتنق الإسلام»، لأن الشباب العرب الذين تعرّفت إليهم هنا يفكرون بها بطريقة خاطئة، إذ «يعتقدون أنني تخليت عن عاداتي وتقاليدي، وأنني أصبحت سهلة المنال لمجرد أنني أعيش هنا، وحدي. العرب مهما فعلوا يبقَ تفكيرهم كتفكير أجدادنا».
ليلى، التي اضطُرت أيضاً للعمل والاستدانة في سبيل تأمين معيشتها، تضيف قائلة: «بسبب العمل، مرّت فصول دراسية اختصرت منها مواد كثيرة، لأجد نفسي فجأة عالقة في فصول دراسية إضافية ترتبت عليّ. إلا أنني لن استسلم، وسأفعل كل شيء لكي أنهي دراستي بنجاح، فأنا هنا في الأساس لأقوم بذلك».
رغم القلق الدائم من الفشل، ترى الصبية جوانب إيجابية في تجربة سفرها، فتقول: «لقد استفدت كثيراً من الصعوبات التي واجهتني. تعلمت أن لا أستسلم أبداً، وأن أناضل في سبيل الهدف حتى آخر نفس. لقد أصبحت شخصيتي أقوى، إذ إنني تحملت مسؤولية كل شيء وحدي، معتمدة في ذلك على نفسي فقط».
بين ألم الغربة وأمل العودة إلى ربوع الوطن حكايات على عدد الطلاب اللبنانيين في برلين. حكايات يغلب على تفاصيلها لون المعاناة والحزن والتعب، لكنها تعاند بقيم التحدي والمثابرة لتحقيق الهدف مهما عظمت الصعوبات. حكايات عن شابات وشبان حلموا ذات يوم بتحسين مستوى تحصيلهم العلمي وبتحمل المسؤولية باكراً، اصطدموا بواقع أقسى من عودهم، لكنهم ما زالوا يحلمون. وأعزّ الأحلام على قلوبهم أن تصبح الجامعة اللبنانية كالجامعات الرسمية هنا، أن يجدوا فرص عمل في الوطن لكي يعودوا إليه ولو براتب أقل. يحلمون أن «يصبحوا على وطن» كالذي يعيشون فيه حالياً.


وجهة كلاسيكية متوارثة عن جيل الحرب

اتجه الكثير من الشباب نحو ألمانيا، وخصوصاً أنها وجهة كلاسيكية اعتمدها قبلهم جيل هرب من أتون الحرب الأهلية، بحثاً عمّا أطلق الألمان عليه في دوائر الهجرة الخاصة بهم «لجوءاً سياسياً». في برلين، تلك العاصمة الكوزموبوليتانية، يقطن حوالى 3,4 ملايين نسمة، على مساحة قدرها 891,85 كم²، نصف مليون منهم تقريباً هم من الوافدين الأجانب، بينهم مئات من الطلاب اللبنانيين الباحثين عن مستقبل أفضل.