أحمد محسنانتهى كل شيء ظهيرة السبت الفائت. انتهى الانتظار الطويل وعناء الاعتصام تحت الشمس. بالنسبة إلى أوديت ديب، كان العالم متوقفاً منذ اللحظة الأولى التي تلت اختطاف ولديها ريشار وماري كريستين سالم في يوم شاحب من عام 1985. لم تكن السيارة التي دهستها في أثناء طريقها إلى خيمتها إلا رصاصة الرحمة. ارتاحت أوديت من آلام تراودها كلما جالت عيناها الصغيرتان داخل منزلها في ساقية الجنزير فرأت ولديها في غرفتهما، من دون أن يكون ذلك حقيقياً. اختطفتهما الحرب ولا تملك منذ ذلك الحين، إلا صوراً لهما. لا أخبار عنهما، إلا كابوس المقابر الجماعية المظلم. كان في حوزتها نوعان من الصور. صور فوتوغرافية تحتفظ بها أينما ذهبت، يسعنا التحديق فيها، واستعارة ألم أوديت إذا شئنا ألا ننسى أنّنا بشر. وصور أخرى عالقة في ذاكرتها، لم يكن شيء قادراً على انتزاعها إلا الموت. في قاعة المستشفى، كان أهلها، أمهات المفقودين وآباؤهم، يواجهون الصدمة بالبكاء. لم يصدق أحد أنّ أوديت لن تأتي إلى الخيمة غداً، كما في كل يوم، من دون أن تتعب من إطلاق صرختها في وجه العالم: أعطوني أبنائي وخذوا كل شيء.
التقيت الكثير من رفيقات انتظارها، قرب الأمم المتحدة. كلّهنّ مثلها، من أجمل الأمّهات اللواتي ينتظرن عودة أولادهن رجالاً ونساءً، كبروا في غربة يجهلون وجهتها، لا شهداء كما في الأغنية. كان حادثاً مؤلماً، بلا أدنى شك، أن ترحل فجأة، بلا حقائب وبلا ورود. فوق سريرها، في خيمة أهالي المفقودين في وسط المدينة، ترفرف روح أوديت ويرافقها طيف «مخطوفَين».
لطالما كنت من المتحمسين لتلك الخيمة وأهلها. هناك، يعتصم أصدق الناس في رفض الحرب. لا رصاص هناك، ولا خطابات، ولا انتخابات. هناك، يتجلى إهمال الدولة عظيماً كالحرب، ساخناً كاللوعة التي تلسع الشرايين. في عيون الأمهات هناك، متاريس لا تزال موجودة، ترزح خلفها أجساد أبنائهم. لن تقام مراسم وداع اليوم لأوديت الأم. أتخيلها في دفنها، مجرد شمعة تنكفئ، وتردد: ريشار، ماري كريستين، أحبكما واشتقت إليكما كثيراً. أتخيلها تبكي حتى في موتها.