أحمد الزعتري
ننسى أحياناً، من فرط الصورة النمطية للفلسطيني الضحيّة في الإعلام العربي، أن هناك أشخاصاً يعملون من دون ضجيج، كما لو كانوا ينتمون إلى وطن مستقلّ يعيش بهدوء خارج الزمن. هكذا تشعر عندما تقابل فيحاء عبد الهادي. بعد أكثر من 30 عاماً من العمل الاجتماعي والأدبي والأكاديمي المسخَّر كاملاً للقضية الفلسطينيّة، لن تقع على صداميّة إيديولوجيّة أو ازدراء أكاديميّ أو ترفّع نخبويّ. هي المقاوِمة في شبابها، والحاصلة على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي، والكاتبة والباحثة الاجتماعية. في الواقع، لن تذكر عبد الهادي في حديثها أي شخص آخر بقصد التصنيف أو المقارنة حتى. وهذا أمرٌ يُحسب لمن لم يتم تقدير جهوده بالشكل المناسب.
على مشارف الستين، تظهر على عبد الهادي علامات الرضى. تتنقّل بين عمّان ورام الله بحيويّة شابة، وتترأس مجلسَي إدارة «مركز أوغاريت الثقافي للنشر والترجمة»، وشاشات «سينما المرأة» في فلسطين. إضافةً إلى عضويتها في المجلس الوطني الفلسطينيّ كمستقلّة، نشرت تسعة كتب بين الشعر والأبحاث الاجتماعية والدراسات النقدية والسياسية والتاريخ الشفوي. فكيف استولت عليها لوثة العمل العام؟
في نابلس، حيث ولدت عام 1951، فتحت عينيها على منزل كان أقرب إلى صالون ثقافيّ وسياسيّ. كانت والدتها عصام عبد الهادي ناشطة سياسيّة في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينيّة ثمّ ترأسته لاحقاً. وكان والدها قاسم عبد الهادي مهتماً بنظم الشعر وإلقائه. تذكر فيحاء أن والديها كانا يقيمان لها ولإخوتها مناظرات شعريّة. لا تنسى فيحاء يوم طلبت منها صديقة العائلة فدوى طوقان أن تلقي قصيدة لها بصوتها. «شكَّل الشعر واحة حرية لي، ومساحة للتنفس، ونافذة لإطلاق الخيال، لم تتحها ظروف نابلس الاجتماعية». من الشعر اليومي في المنزل، باتت فيحاء تتردد على مكتبة البلدية. هناك، تعرفت إلى أعمال نجيب محفوظ ويوسف السباعي وجرجي زيدان، ومن الفلسفة أحبت أفلاطون وأرسطو.
تلك الفترة كانت كافية لإنضاج فتاة تعلّمت الكثير في وقت قصير. بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، انخرطت ابنة الستة عشر عاماً في التظاهرات والاعتصامات، وبدأت الفصائل المقاومة بتعليم الشباب حمل السلاح. هكذا، تناوب على تعليم فيحاء وزميلاتها في المدرسة معلّمان، الأول مازن أبو غزالة الذي استُشهد لاحقاً، والمعلمة شادية أبو غزالة التي استُشهدت هي الأخرى وأثّر ذلك كثيراً في تلميذتها. «كانت شادية طالبة سنة أولى علم نفس في القاهرة، وعندما احتُلّت الضفة وغزّة عادت إلى فلسطين لتنخرط مع المقاومة»، تروي عبد الهادي. كان وقع استشهاد هذه الشابة مؤلماً من الناحيتين النفسية والجسدية. بعدما انفجرت بها قنبلة كانت تعدهّا لتفجير عمارة «شالوم» في تل أبيب، كُشف التنظيم الصغير لتُعتقل فيحاء ووالدتها، إضافة إلى أربعين من زملائها معاً.
«في اليوم الأول ضربوني أثناء التحقيق، وفي اليوم الثاني ضربوني أمام أمي بقصد إضعافها». وهناك، في السجن، كتبت قصيدة وأرسلتها إلى غسان كنفاني لينشرها في مجلة «الهدف» التي كان يرأس تحريرها.
بعدها، كان الإبعاد إلى الأردن لمدة 27 عاماً. خلال تلك الفترة، شُغلت فيحاء بالتحصيل الأكاديميّ. من بكالوريوس الأدب العربي في الجامعة الأردنية، إلى الماجستير في التخصص نفسه من جامعة القاهرة. في الفترة ذاتها، أتمّت الإجازة في النقد المسرحي من معهد الفنون المسرحية، ثم الدكتوراه في الأدب العربي الحديث. أثناء ذلك، تزوّجت وائل أبو غزالة، ووَلَدت واستقرّت في القاهرة.
بعد أعمال عدّة متقطعة في اليونيسيف وجامعة الدول العربية والتدريس، بدأت فيحاء تبدي اهتماماً بالتأريخ الاجتماعيّ من خلال التاريخ الشفويّ. «حين تعرَّفُت على التاريخ الاجتماعي من منظور النساء سحَرني. وجدت تقاطعاً خاصاً بين التغيير الذي يتيحه هذا المنهج، حيث تمكّن من إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر النساء، وحيث تفكيك القيم السائدة، وبين النقد الأدبي، الذي يتيح تغييراً سياسياً اجتماعياً بشكل غير مباشر، عبر زعزعة المسلَّمات والأفكار الجاهزة»، تشرح. كانت نتيجة هذا الاهتمام بحثين نُشرا في كتابين: «أدوار المرأة الفلسطينيّة في الثلاثينيات» و«أدوار المرأة الفلسطينيّة في الأربعينيّات» عن مركز «المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق». تقول فيحاء عن هذه التجربة: «تفاجَأ النساء اللواتي يروين تاريخهنّ شفهياً بأنّ ما يقلنه يمكن أن يكون مهمّاً. عندما نسأل إحداهنّ عن مشاركتها في المقاومة أثناء ثورة عام 1936 كانت تسرد الأحداث ببساطة شديدة. منهن مَن كانت تخبّئ السلاح، وأخرى تنقله في قماشة على رأسها مجازِفةً بحياتها أمام الجنود». هذه الدراسات أسهمت، برأي فيحاء، في إعادة تعريف المشاركة السياسية للمرأة، ومن خلال نشر الكتب، تصبح حياتهن جزءاً من التاريخ.
«البطولة في الصمود اليوميّ» تشرح، «لا أقلل من دور حنان عشراوي مثلاً التي أصبحت مثالاً للبطولة النسوية وحتى الاستشهاديات. لكنَّ البطولة تكمن أيضاً في التصدي لهدم البيوت، وعدم بيع الأراضي، والوقوف ضد جدار الفصل».
من إحدى المحاولات في التأريخ الشفهي للمرأة الفلسطينيّة هي سلسلة «قالت شهرزاد»، وكان آخرها «رواية من مجزرة غزّة» عن العدوان الإسرائيلي الأخير عليها. تستند هذه الروايات إلى أحداث حقيقيّة وعمل ميدانيّ علميّ، وترويها فيحاء بنفَسٍ شهرزاديّ خارج الوقت والمكان كأنها رواية لأسطورة... «ولمّا كان اليوم الخامس للعدوان الإسرائيلي الهمجي، البريِّ والبحريِّ والجويّ، بواسطة الدبابات الإسرائيلية، والزوارق البحرية، والطائرات الحربية، على قطاع غزّة الأبية، وفي الساعة الحادية عشرة، من مساء يوم الأربعاء، حدَّثتني نعيمة قائلةً: حدَّثتني الحاجة زكية بنت محمد حسن أبو عريضة، قالت إنّها تلقَّت هدية وداع مختارة للعام الحالي، تتقاسمها هي وأسرتها الكبيرة. كانت الهدية عبارة عن قذيفة تجريبية، لم يسمع بنوعها أحد من قبل، ألقتها طائرات جيش الدفاع الإسرائيلي الحربية، على المنتزه المجاور، فتناثرت شظاياها التي لا تحصى على كل ركن في بيتها، فجرحت أولادها جراحاً يصعب شفاؤها، وأردت الصبية الرائعة إيمان، زوجة أكبر أبنائها».
لكن أين هي فيحاء عبد الهادي الزوجة والأم والحفيدة، هل تشعر بالرضى الشخصيّ بعد كل هذا العمل الذي لا يفصل بين ما هو ذاتيّ وعام؟ تسكت عبد الهادي قليلاً وتجيب: «أنا سعيدة ببعض الأمور التي تتحقّق على الأرض أو من خلال النشر». لكنّها تفاجئك عندما تتحدّث عن شغفها الشخصي... الكتابة الإبداعية: «أحب أن أتفرّغ للكتابة الإبداعية، هي أقرب الأنواع الأدبية إلى قلبي... لكنني أنتزع الوقت انتزاعاً لأن القضايا العامة تهمّني. أعتقد بأننا أسوأ محامين لأعدل قضيّة».


5 تواريخ

1951
الولادة في نابلس

1969
الاعتقال والإبعاد إلى الأردن

1975
الزواج بوائل أبوغزالة. تحصيل أكاديمي تواصل حتّى أوائل التسعينيات

1998
العودة إلى فلسطين بعد 27 عاماً من الإبعاد

2009
تستعد لنشر كتابها الثالث ضمن البحث في دور المرأة الفلسطينية السياسي «أدوار المرأة الفلسطينيّة في الخمسينيات حتى أواسط الستينيات»