قاسم س. قاسممرّ عامان على نزوح سكان البارد من مخيمهم. انتشروا في مخيمات لبنان من البدّاوي شمالاً، إلى بيروت، وصولاً إلى الرشيدية في الجنوب. تركوا مخيمهم خلفهم ورحلوا. حملوا همّين، همّ العودة، وليس المقصود هنا فلسطين بل مخيمهم، وهمّ تأمين لقمة عيش في مجتمع دخلوه فجأةً. بالنسبة إلى النازحين اللاجئين إلى مخيمات أخرى، فإن ما جرى لهم كان نسخة مكرّرة لما حصل لمخيمي تل الزعتر عام 1976 والنبطية عام 1973. «مخيمنا أصبح ذكرى»، يقول ابن مخيم البارد ناصر ياسين (49 عاماً). ترك ياسين قاربه ومهنة الصيد التي كان يسترزق منها، وجاء مع عائلته إلى مخيم برج البراجنة. لا يختلف منزل ياسين في المخيم عن باقي المنازل، غرفة ومطبخ وحمام، تضم عائلة مكوّنة من خمسة أفراد. يجلس أطفاله الثلاثة قربه، يبتسمون للكاميرا، أما ياسين، فيعدل جلسته، ويقول «قلبي بقي في البارد وجسدي في البرج».
اليوم، بعد عامين على «حرب البارد»، كما يسمّيها ياسين، لا تزال صورة المخيم وبحره قابعة في ذاكرته. يحدثك عن «الأيام الحلوة في المخيم»، وكيف كانت علاقتهم بالجوار اللبناني، «كنا نبيع بالدَين، العسكري لآخر الشهر، والعرسان على راحتهم». أما في مخيم البرج، فكل شيء تغيّر بالنسبة إليه، رغم أن «كل المخيمات بيوتنا وفيها أهلنا وناسنا، بس معارف تلاتين سنة غير يللي بتتعرف عليه جديد». لم تكن مرارة ياسين بسبب الغربة لكن أكثر من يفتقدهم هم «أصحاب العمر الذين تشتّتوا معنا بباقي المخيمات». منذ أسبوع زار ياسين مخيم نهر البارد. عند سؤاله هل رأيت أي مظاهر لإعادة البناء؟ يجيبك: «كل شي زيّ ما هو، هادّين تلات رباع المخيم، وبعدو المخيم القديم منطقة عسكرية». يصف ياسين المخيم، «البراكسات متلاصقة بعضها ببعض، لا تملك أبواباً، وضع الناس الشوادر على الأبواب». يكمل ليقول بغضب «كأنها زرايب بقر».
لحظات ويهدأ الرجل ليقول «لا أتوقع العودة إلى مخيم البارد، فالقرار سياسي، وكل الوعود هي مجرد حكي». أما أكثر ما أزعجه في رحلة حجه إلى المخيم فهي «الإجراءات الأمنية المشدّدة، وكيف بس يعرفوك ابن البارد بفتشوك».
متشابهة هي قصص النازحين من البارد وأخبارهم. المعاناة التي عاشوها واحدة. يجلس موسى المحمد 50 عاماً بين عائلته المكوّنة من 8 أفراد تضمهم غرفة واحدة ومطبخ. يعاني محمد كسراً في الورك، وحتى اليوم «ما ضربت ضربة شغل واحدة»، يقول، أما من يساعده في مصروف العائلة، فهم أبناؤه. ترك محمد مخيمه بعد شهر من اندلاع الاشتباكات مع الجيش اللبناني، وتوجّه إلى مخيم البرج. في البدء ساعدته الأونروا من خلال «نظام الشؤون»، أما اليوم «فخفّت هذه المساعدات، ولم تعد مثلما كانت». يصمت محمد قليلاً ليتذكر أيام البارد «كان عندي تاكسي، وبيتي كبير، أما اليوم، فقاعد بلا شغل». هكذا، هي أحوال نازحي أبناء البارد، تفتيش على الحواجز، مناطق عسكرية ممنوع الدخول إليها، ولاجئون يبحثون عن مخيمهم وبقايا أمل.


وللأموات قصتهم

لا تقتصر معاناة نازحي مخيم نهر البارد على الأحياء فقط، بل للأموات حصتهم. فالدفن في البارد ممنوع، والزيارات إلى المدافن ممنوعة. أما السبب؟ فهو وقوع مقبرة المخيم ضمن المنطقة العسكرية التي أعلنها الجيش في المخيم القديم. يشرح ياسين ما حدث معه «توفي والدي، ولم ندفنه في البارد، لأننا ممنوعون من ذلك»، ويضيف «حتى لو قررنا أن ندفنه هناك فالمعزّون بحاجة إلى تصاريح، مما قد يدفعنا إلى تأجيل العزاء بانتظار الحصول عليها». لم يكن والد ياسين الوحيد الذي دُفن خارج المخيم بسبب العراقيل، فعمّه دُفن في البداوي، وجاره دُفن في الرشيدية نتيجة لذلك. يكمل ياسين حديثه ليقول «دمّر 10% من مقبرة مخيم نهر البارد، وفي زيارتي الأخيرة شاهدت حوالى عشرين قبراً جُرفت». أما أوقات الزيارات التي يُسمح فيها بالدخول إلى جبانة المخيم فهي «في أيام العيد الثلاثة فقط». يضحك ياسين من سخرية القدر، ويقول «المهم الفاتحة بتوصل لروح الميت وين ما كان».