خالد صاغية«إن الذات التي أخذت قرارها في السقوط في جحيم الخيانة لا ترتكب فعل الخيانة لأسباب ماديّة أو حتى لأسباب عقيديّة فقط...». صاحب هذا القول هو الموقوف زياد الحمصي الذي اعترف بجرم التعامل مع إسرائيل. كتب كلامه هذا عام 1997. وفقاً لاعترافاته، لم يكن عميلاً في ذاك الوقت، ولم يوافق على التعامل مع إسرائيل إلا عام 2007. قبل ذلك، تنقّل الحمصي بين عدّة منظّمات مقاتلة ضدّ إسرائيل، وشارك في مواجهات مع الإسرائيليّين أعوام 1969 و1973 و1978 و1982، قبل أن يتعرّض للسجن على أيدي الاستخبارات السوريّة. وروت الصحافة أنه كان فاعلاً في معارك سعدنايل ـــــ تعلبايا التي حصلت إثر أحداث السابع من أيار 2008 (راجع مثلاً «الأخبار»، الاثنين 18 أيّار 2009، العدد 821).
السرعة التي اعترف بها الحمصي بعمالته لافتة. بدا كمن يريد أن يتخلّص من عبء أثقل كاهله. لا يزال التحقيق جارياً معه ومع سواه من المتّهمين بالانتماء إلى شبكات التجسّس. إلا أنّ ما رشح حتى الآن من اعترافات ومن سِيَر، يدعو إلى التأمّل. فمن الصعب اعتبار المال عاملاً وحيداً في حسم قرار التعامل مع إسرائيل. وبالنسبة إلى من بدأوا التعامل حديثاً، لا يمكن فصل أعمالهم عن الأجواء السياسيّة أو الطائفيّة المتوتّرة التي نشأت في السنوات الأربع الأخيرة.
لا يسوّغ ذلك فعل الخيانة، لكنّ اللبنانيّين ـــــ وحزب اللّه تحديداً ـــــ مدعوّون إلى ألا يمرّوا مرور الكرام على سيرة الحمصي. نحن مدعوّون إلى التفكير مليّاً في ما إذا كانت المواقف السياسيّة والخطاب التشنّجي الذي لا يراعي في أحيان كثيرة التنوّع الطائفي الموجود في البلاد، أو هواجس الكتل الطائفيّة، بدأ يساعد في دفع بعض الأفراد دفعاً للتعامل مع العدوّ. إذا صحّ هذا التحليل، نكون أمام حالة خطيرة. ويكون الكلام الذي يقال عادة في بعض الأماكن المغلقة عن تفضيل عدوّ على خصم داخليّ، قد بدأ يأخذ طريقه إلى الفعل، وليس الفاعل وحده مذنباً.
لقد تزامن اكتشاف شبكات التجسّس مع ذكرى السابع من أيّار التي اعتبرها الأمين العام لحزب اللّه ذكرى «مجيدة». بدا نصر اللّه منسجماً مع نفسه، وتدرّج بحججه منطلقاً من أولويّة المقاومة والحفاظ على سلاحها ومن واجبه تجاه مقاتليه الذين سقطوا في أحداث السابع من أيّار، أولئك الذين لا يستطيع، كقائد، أن ينظر إليهم إلا كشهداء. لكنّ هذا الانسجام مع النفس ليس كافياً لمخاطبة الناس الذين نفترض أنّهم الشعب اللبناني أوّلاً. فكيف يُصرَف هذا المنطق في إحدى حارات بيروت، في أحد مبانيها المختلطة طائفياً وسياسيّاً؟ كيف يُصرَف هذا المنطق لدى جزء من اللبنانيين غير مؤيّد للمقاومة؟ لا بل كيف يُصرَف لدى مؤيّدي المقاومة، أم أنّ حزب اللّه بات حاسماً بأنّ الواقفين ضدّ استخدام سلاحه في الداخل هم أنفسهم الواقفون ضدّ استخدامه في الخارج؟
لا تقاس كلّ الأمور بمنطق الكلفة العسكريّ. قد يكون 7 أيّار قطع الطريق على حرب أهليّة أطول، وضحايا أكثر. لكنّ السياسيّ الذي يريد أن يؤكّد أنّه يستطيع أن يحكم البلاد، لا يمكنه أن يبرّر عنفاً أهلياً (حتّى لو رآه اضطراريّاً) بتباهٍ وتمجيد، بل يفعل ذلك بحزن وألم.
يعلم حزب اللّه تماماً أنْ لا إجماع على المقاومة في لبنان، وأن لا إجماع على أيّ مقاومة في أيّ بلد آخر. ويعلم أيضاً أنّ انتهاء الإدارة السوريّة للبلاد فرط الإجماع اللفظي على المقاومة. السؤال الذي على الحزب أن يجيب عنه هو ماذا سيفعل في ظلّ انكشاف هذا الإجماع بعد خروج الجيش السوري؟
ليس الحزب في موقع «المحشور» داخلياً. نسج تحالفات عابرة للطوائف حتّى يتمكّن من الحصول على أكثريّة نيابيّة تحميه وتحمي سلاحه. وإذا خانته الأكثريّة، فلديه النظام الطائفي ومطالباته بالديموقراطية التوافقيّة. وإذا لم يحترم النظام اللبناني رأي أكثريّة إحدى طوائفه، فإن لديه اتفاق الدوحة الذي تحدّث عن عدم استخدام السلاح في الداخل، لكنّه أحال مسألة السلاح إلى طاولة الحوار. والحوار هنا ليس إلا مصطلحاً كوديّاً يعني عكسه تماماً، أي إنّ مسألة السلاح غير مطروحة للحوار حاليّاً، وإنّه لا يمكن طرحها أصلاً إلا في ظروف داخلية وإقليمية ودولية مختلفة تماماً.
إزاء هذا التحصين، كان الأجدى عدم صبّ الزيت على النار. فالحرائق حين تندلع لا تميّز بين قويّ وضعيف.