بنت جبيل ــ داني الأمينيتذكّر أبناء بنت جبيل حكايات «أيام زمان» الانتخابية بحنين وتحسّر على ظروف معيشية قاسية سمحت في الستينيات من القرن الماضي لرجالات السياسة باحتكار العمل السياسي. فالمرشحون لم يكونوا، كما يقول أبو أحمد مصطفى من حولا، يحتاجون إلى القيام بجولات في القرى والبلدات، لأنّ الولائم الانتخابية التي كانت تُعقد في دارتي رئيس المجلس النيابي السابق «البيك» أحمد الأسعد أو نجله كامل في بلدة الطيبة، أو دارة علي بزي في بنت جبيل كانت تكفي وحدها لتجيير أصوات الناخبين، لتكمل بعدها «المفاتيح الانتخابية» من وجهاء العائلات الجنوبية مهمة حدل الأصوات المناوئة. هنا لا يذكر أهل القضاء مرشحاً منفرداً واحداً استطاع حينها الفوز بمقعد نيابي، رغم اختلاف المعايير التي كانت تُعتمد لدى الناخبين والمرشحين.
يتحدث أبو أحمد عن «حنكة» الأسعد الذي كان كلّما اقترب موعد الانتخابات «دخل منازل الفلّاحين وسألهم عن مواشيهم وأبقارهم وزراعتهم بعد أن يكون قد سمع أخبارهم من أزلامه». وكان «البيك» يحرص على زيارة رجال الدين لكسب تأييد محبّيهم. وهنا يروي مختار شقرا السابق عدنان الأمين تفاصيل زيارة الأسعد منزل المرجع الديني السيد حسن محمود الأمين في بلدة خربة سلم، حيث يبدأ الأسعد بالسير على قدميه من مدخل البلدة، ثم يخلع حذاءه ويحمله بيديه قبل أن يصل إلى المنزل بأمتار قليلة. وبعدها يتقدم «البيك» من السيد منحنياً فيسبي قلوب أكبر عدد ممكن من مريدي السيد من الناخبين.
وتكثر القصص عن مهابة الأهالي للبيك، ويذكر أبو علي الزين من بلدة شقرا حادثة قدوم الأسعد إلى مسجد البلدة للتعزية بأحد علمائها، وأثناء وجوده بدأ بالسعال، فما كان من أحد أبناء البلدة إلّا أن قدّم إليه وسادته التي كان يجلس عليها، ليبصق فيها. في المقابل، يحفظ الأهالي أخباراً عن «مقاومة» سلطة الإقطاع المتمثلة بالبيك، فيحكي مختار شقرا نفسه أنّ موكب الأسعد كان يعبر في إحدى المرات في محلّة عين المزراب في تبنين، فلمح السيد علي محمد الأمين، وهو شيخ معروف، فدعاه للصعود إلى سيارته لإيصاله. لكن الأمين رفض «الصعود مع أمثالك».
وعن استخدام السياسيين لقوى الأمن في الانتخابات، يذكر أبو أحمد كيف طلب ضابط في حولا من المختار أن يحدد له عدد الأصوات المناوئة للأسعد في الانتخابات البلدية، فقال: خمسون، فأمر الضابط باعتقالهم جميعاً، لكنه فوجئ بعدها بفوز الشيوعيين بفارق كبير، فقال للمختار: «لو كنت أعلم بما سيحصل لاعتقلت جميع أبناء البلدة». ويشير المختار إلى حادثة أخرى عن ضابط كان يخدم في بلدة شقرا، هدد أحد أعيان البلدة أمام الملأ «فيما لو لم ينتخب كامل الأسعد».
وفي باب آخر، كانت المواكب السيارة للمرشحين تجول في القرى، ويعتلي رجل يجيد المديح سطح إحدى سيارات الموكب منشداً. ويقول أحمد الخطيب (93 سنة) الذي كان من أتباع الأسعد: «كنّا نقترب أيام الانتخابات من منازل أعداء الأسعد ونردّد المواويل التي تمجّد البيك ومنها: «أحمد وليّ أحمد إمام/ ع جنب الله كرستو/ حا ندوس عرقاب العدى لو هزّ أحمد بجزمتو».
ومن الحوادث التي تروى عن المعارك بين المرشحين أنّه في عام 1968 صودف مرور موكب المرشح عبد اللطيف بيضون أثناء مرور موكب كامل الأسعد، فحدثت معركة قاسية بالعصيّ والأيدي، أدّت الى تحطيم زجاج سيارات الموكبين. وكان وقتها بعض أنصار المرشح عادل عسيران، المعادي للأسعد، يردّدون في جولاتهم الانتخابية: «طربوش أحمد منعكف معكوف عكفة زعرني/ والجسم خالي من الشرف مجبول جبلة وحشني».


خدمات للخصوم لا للأنصار

لم تكن خدمات المرشحين تتوجه إلى الأنصار بقدر ما كانت تشمل الخصوم لكسب تأييدهم. وينفي أحمد الزين، من شقرا، أن يكون العدد الذي كان يوظّفه الرئيس أحمد الأسعد كبيراً، فهو لم يكن يتجاوز موظف أو اثنين في الموسم الانتخابي الواحد، فيما يتلقّى باقي الأهالي وعوداً معسولة. أما الوفود المناصرة، فكان عليها أن تحضر معها الخراف لتقديمها إلى البيك. وعندما لم يُحضر وفد بلدة فرون في قضاء بنت جبيل معه الذبائح راحت الوفود الأخرى تردّد «يا فرون روحي تخيّبي/ ما تجي عا دار الطيبة/ حطّك على نسف الطبيخ/ وعودة حطب ما تجيبي».
ويذكر من رديّات زمان: «إجت حولا بفحولا يا سيدي البيك/ إجت حولا زيحولا كرمال عينيك». وكان لكل «بلاط» إقطاعيّ شاعره الخاص، ويعدّ ذلك من أشكال الوجاهة.