يُعدّ حالة فريدة في الثقافة العربيّة المعاصرة، ويختصر مساره الفكري والأدبي الخصوصيّة المغربيّة التي تجمع بين إلمام عميق بالتراث العربي ــ الإسلامي وانفتاح على الحداثة. انغماسه في التراث انعكس على لغته اليومية... لكن أستاذ الرواية في جامعة الرباط يبقى «بعيداً في قربه»
نوال العلي
حين يعثر على مجموعة من القصص المصوّرة يرتمي عليها كطفل، ويقرأها بنهم قراءاته الأخرى. يتحدث عن الصورة والقصص المصوّرة بامتنان مدافعاً عن قيمتها بل جديتها. إنها صاحبة الفضل في نقله إلى عالم السرد الذي بات إدماناً للروائي والناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو. «لا بد من أن أقرأ كل يوم شيئاً من السرد لأشعر بأن الحياة بخير، وبأن كلّ شيء من حولي على ما يرام. هكذا بدأت ثم انتقلت إلى كتب أكثر جهامة».
يستذكر صاحب العمل الروائي «خصومة الصور» صف اللغة الفرنسية، حيث كان لزاماً أن تدرس الفرنسية خمس ساعات يومياً والعربية ساعتين. هناك في مدرسة حي العلو (الرباط) تعرّف إلى فن الصورة لأول مرةٍ. إذ كانت مفردة الصورة وحتى الفوتوغرافية العائلية منها نادرة، إن لم نقل غير موجودة أصلاً، لأسباب دينية وأخرى ثقافية اجتماعية أخرى، تنظر إلى الصورة بعين الإهمال والتجاهل.
ليست المدرسة الفرنسية وحدها، ولا الصورة هي ما يستذكره كيليطو من طفولته. قبل هذا، كانت هناك صناديق مغلقة في بيت الجد، صناديق ملأى بالكتب. يتساءل كيليطو إلى الآن إن كان جده نفسه قد قرأها؟ وفيما كانت الكتب حبيسة الصناديق في بيت الجدّ، خلت المدرسة القرآنية من أي كتاب حتى القرآن نفسه، فقد كان المعلّم يلجأ إلى استخدام الألواح الخشبية.
ذكريات كيليطو ابن مدينة الرباط، تجعل المرء يفكّر في الصور الأولى التي رآها، في قيمة الصور... لذلك تفكّر في أنك حالما تنتهي من محاورته، تقصد أوّل مكتبة في الحيّ، لتشتري كتابه النقدي «الحكاية والتأويل»، وتحرص على شراء قصص مصوّرة، وتفكر في إهداء بعضها إلى الكاتب. يسعده أن يقال له إن له ملامح تشبه ميلان كونديرا، كيف لا وهو من أشد المعجبين بالروائي التشيكي الذي يكتب بالفرنسية. وكيليطو أيضاً يكتب بالفرنسية، رغم إتقانه العربية. إغراقه في دراسة التراث ترك أثراً واضحاً على لغته اليومية، فليس مستغرباً أن تسمع منه تعابير قديمة قدم اللغة... كأن يفاجئك بقوله مثلاً «ليت شعري لماذا تكبدتِ هذا العناء؟». وأنت لم تفعل شيئاً سوى أنك حملت إليه الجريدة ذلك الصباح!
تلك العلاقة المركّبة بين الفرنسية وآدابها الحديثة والقديمة والعربية وتراثها، منحت كيليطو ميزته الجدلية القائمة على فكرة القرب والبعد. حصل ذلك في بداية السبعينيات، حين هيّأ كيليطو نفسه لدبلوم الدراسات العليا حول موضوع القدر في روايات فرانسوا مورياك. ولمّا كان الكلام يروّج عن الهوية والجذور والانتساب إلى أصول، وشاعت مفردة «الاستلاب» التي ارتبطت في ذهن كيليطو بدلالة الجنون: «كنتُ أظن أن مَن لا يكتب بلغته هو من المجانين». تزامن كل ذلك مع شيوع موجة البنيوية التي أخذ يدرس كيليطو من خلالها بنية السرد. وجد صاحب «الأدب والارتياب» نفسه في جوقة ثقافية شاع فيها أسلوب تطبيق المناهج على النصوص. «قلت لنفسي بسذاجة سأحاول أن أقوم بتطبيق ما، ولكن ماذا أُطبّق على ماذا؟»، يقول.
كان على كيليطو أن يختار شيئاً من التراث، فاختار مقامات الهمذاني والحريري وشرع في قراءتها لأوّل مرة. هنا ظهر له أن كلمة تطبيق مرادفة للعبودية، وأن الأمر أكثر تعقيداً من دراسة نصوص بعينها: فلكي تدرس المقامات لا بد من الإلمام بالثقافة العربية ككل، تاريخها فلسفتها وفنّ السيرة والعروض والنحو: «من هنا، شرعت في إعادة تكويني، وغامرت في دراسة المؤلفات التراثية». يستعيد كيليطو استماعه لأول مرة إلى محاضرة رولان بارت في الرباط، وكانت بعنوان «مدخل للتحليل البنيوي للسرد»... خرج من تلك المحاضرة بقناعة مَن لن يتمكن من التواصل مع هذا النوع من النقد. لكن مع الوقت، عاد الباحث المغربي إلى أحضان هذه المدرسة النقدية الجديدة، ليسافر إلى فرنسا، وينجز بحثه عن «المقامات» (1982)، ويحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون.
حين تسأل عبدالفتاح كيليطو عن ضرورة القطيعة مع التراث لإحداث منفذ حقيقي في الأدب، تظهر تلك الميزة التي تصبغ كتابته ومواقفه بصبغتها، أي القرب لأجل البعد. يقول صاحب «لن تتكلم لغتي»: «لم أدرس التراث لأتعلق به أو أعيد إحياءه، بل درسته مبتعداً عنه لأنني إن بقيت في مستوى التراث فسأتخلى عن نفسي، أنا أنتمي إلى المستوى الذي أعيشه في سياق عصري وزماني».
السخرية والفكاهة الملموستان في كتابته تضعان مسافة بينه وبين التراث، تقابلهما سخرية قاسية من الذات، يبرّرها كيليطو برغبته في الابتعاد عن نفسه ليبقى حراً. «أخشى أن أصير عبداً لنفسي، لكن حين نتحدث عن الابتعاد فربما يكون الابتعاد هو سر القرب، فأن تبتعد عن الشيء قد يعني الاقتراب منه، هكذا أعتقد وهكذا أحاول».
بعد كتابه «المقامات»، توالت الأبحاث والروايات. كان أبرزها عمله «الأدب والغرابة» (دار الطليعة ــــ 1982)، فيه عبّر كيليطو عن التباس مفهوم الأدب: «لم نضع تصوراً دقيقاً لنظرية الأدب ونظرية الخطابات والأجناس النوعية داخل منظومة الثقافة العربية الكلاسيكية. ومع ذلك، فالأدب يتميز عن اللا ــــ أدب بالغرابة والخرق والانزياح»، يقول الناقد ميلود الباردي في قراءة للكتاب.
أمّا كتابه الشهير «لن تتكلم لغتي» فقد ضمّت فصوله سبعة مقالات نقدية متعددة، يمكن أن نلمح أثرها في ما يرى كيليطو أنه يميز الكاتب العربي... فهو يقرأ ما يُكتب بالعربية والفرنسية ولغات أوروبية أخرى، ويرى أن “ذلك مسألة حياة أو موت، إما أن أعرف وأدرس الأدب الأوروبي، أو أنا شبه لا شيء». وهو في ذلك على العكس من الأوروبي المستغني عن دراسة الأدب العربي، ولا يلحقه من ذلك الاستغناء ضرر كبير. وهذا ليس نقصاً في الأديب العربي بل، على العكس، قد يكون إثراءً له وغنى. أما أن يصبح القارئ الغربي هو الموجود في متخيّل الأديب العربي، فتلك هي المعضلة. «ماذا لو أن أحداً قال للمتنبي إن قصائده ستترجم إلى الفارسية، ربما لاستشاط غضباً ورأى في ذلك أمراً مهيناً». يضحك كيليطو أستاذ الرواية في جامعة الرباط، المولع بروايات القرنين الثامن والتاسع عشر، حيث يدرّس «جاك القدري» لديدرو و«الصوفا» لكريبيون الابن. بينما يكتب عن التراث العربي بالفرنسية، مجسّداً حداثة نقدية من نوع خاص، يستند فيها إلى المدارس النقدية الفرنسية وأساليب البلاغة العربية. حقاً أليس كل كاتب عربي، على نحو ما، مزدوج الهوية؟


5 تواريخ

1945
الولادة في الرباط

1982
الحصول على الدكتوراه من جامعة السوربون عن أطروحته حول المقامات. وصدور كتابه «الأدب والغرابة»

1996
حصل على «جائزة الأطلس الكبرى» و«جائزة الأكاديمية الفرنسية»

2007
حصل على «جائزة سلطان العويس» عن فئة الدراسات الأدبية والنقد

2009
تصدر له قريباً رواية «أخبروني عن الحلم»