جيلبير أشقر *بكلام أدق، لقد أيّد أوباما زيادة عديد الجنود الأميركيين لتوطيد الأمن في بغداد ومحافظة الأنبار، وهي زيادة أتت مطابقة لتوصيات التقرير، وأعلن أنه كان ليعتمد استراتيجية الخروج (من العراق) التي تضمنها. لكنه بالنسبة إلى هذا الموضوع، لم يدلِ بكلام مبتكر جداً مقارنة بما كانت تقوم به إدارة بوش منذ أن نفذت الزيادة في عدد الجنود. من هذه الزاوية، يمكن المرء أن ينظر إلى واقع يحمل رمزية ومدلولاً كبيرَين، وهو أنه طلب من روبرت غايتس أن يبقى على رأس وزارة الدفاع ـــــ فكرّر بهذا ذلك النوع من الخطوات التوافقية بين الحزبَين، في ما يخص وزارة الدفاع، الذي خطاه بيل كلينتون عندما عيّن في المنصب نفسه جمهورياً آخر هو وليم كوهان لولايته الثانية.
بيد أنّ المجال الذي اختلف فيه أوباما عن بوش في التصريحات العلنية تعلق خصوصاً بإيران: ففيما لم توافق إدارة بوش يوماً فعلياً على الانصياع للتوصية القاضية بإجراء محادثات مع إيران والواردة في تقرير بايكر ـــــ هاميلتون، أوضح أوباما من دون أي لبس أن هذا ما سيفعله إذا انتُخب، ولهذا السبب تحديداً هاجمه كل أصدقاء اللوبي الإسرائيلي. لكنه لم يُجرِ، لا هو ولا وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، أي تغييرات جوهرية في هذا الخصوص منذ أن تولّى منصب الرئاسة. ويمكن إعطاء ذلك أكثر من تفسير، يقول أحدها إنهما يخشيان أن يؤثر إجراء محادثات مع إيران الآن على الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة تأثيراً مخالفاً لما يعتبرانه مصالح الولايات المتحدة. وإذا صح هذا التفسير، فهذا يعني أنهما سيستمران بسياسة «فلننتظر لنرى» حتى الانتخابات في حزيران/ يونيو 2009.
بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ستنتقل إدارة أوباما على الأرجح إلى انفتاح أكثر جدية باتجاه إيران، مطبقةً سياسة الجزرة والعصا ـــــ مع جزرة كبيرة، فيما كانت إدارة بوش تحمل عصا كبيرة. وسوف تأمل تحقيق صفقة مع القيادة الإيرانية، بموجبها تتعاون طهران معها في تحقيق الاستقرار في العراق والشرق الأوسط، ويعترف كل طرف بمصالح الطرف الآخر كما يفعلان حالياً في العراق، حيث يقوم الفريقان برعاية الحكومة ذاتها، حكومة نوري المالكي.
وقد فرضَ مثلَ هذه السياسة الاسترضائية على الحكومة الأميركية الظرفُ الملحّ الذي وجدت نفسها فيه في الشرق الأوسط نتيجة السياسة المشؤومة التي اتبعتها إدارة بوش. أساساً، إن إدارة أوباما، التي تواجه وضعاً عراقياً في حالة نصف انهيار، في مرحلة تُضيِّق فيها الأزمةُ الاقتصادية الشاملة مجال التحرك المتاح، تفكّر ملياً في رد فعل مشابه لذاك الذي قامت به إدارة نيكسون عندما واجهها الوضع المنهار في فيتنام؛ فكانت استراتيجية الخروج تقضي بما يأتي: «إضفاء الصفة الفيتنامية» على الحرب، وإخراج كل الجنود من فيتنام، وعقد صفقة مع موسكو وبكين. أما الآن، فتقوم الاستراتيجية على الآتي: «عرقنة» الحرب (وتم ذلك من خلال زيادة عدد الجنود في بغداد واعتمادها على رشوة مجموعات كبيرة مما كان يشكل «التمرد» السني على شكل «مجالس الصحوة» لكسب تعاونها)، وإخراج القسم الأكبر من الجنود من العراق (مخطط له حتى عام 2011)، وعقد صفقة مع طهران. وتجري السياستان على مسرح تشكل أزمةٌ اقتصادية شاملة خانقة ستارتَه الخلفية.
بمعنى من المعاني، سوف تتطلب السياسة الجديدة، إذا طُبِّقت بكاملها، قدراً من الجرأة أقل بأشواط من ذاك الذي احتاج إليه فريق نيكسون ـــــ كيسينجر: فالانسحاب من فيتنام فيما كانت الحرب الباردة مستمرة، كان مثيراً للعجب أكثر بكثير من الانسحاب من العراق في غياب أي مبارز عالمي يُعتبر «نداً» للولايات المتحدة؛ وإجراء محادثات مع «الصين الحمراء» أثار دهشة أكبر بكثير مما يمكن أن يفعله أي تحرك استرضائي باتجاه إيران، وخصوصاً أنه لا يُتوقع أن يجري أوباما ـــــ كلينتون مقداراً من الاستعدادات التمهيدية المفاجئة مع عدو الأمس يوازي ذاك الذي قام به نيكسون ـــــ كيسينجر في علاقتهما مع الصين. كما يتمثّل أحد الفوارق المهمة بأن فريق نيكسون استطاع أن يلعب على «تثليث» علاقاته مع موسكو وبكين على ضوء الخصومة بين العاصمتَين «الشوعيتين»، في حين أنه ما من وضع مماثل مع إيران.
غير أن الاختلاف الأساسي يكمن حتماً في دور إسرائيل. فبالنسبة إلى الدولة الصهيونية، إيران هي العدو الأبرز في المنطقة كلها، والمسألة النووية «خط أحمر» قد يدفع الدولة الإسرائيلية إلى التحرك عسكرياً إذا رأت أنه تم تجاوز الخط.
ونعرف من المعلومات التي كشفتها صحيفة «نيويورك تايمز» في 10 كانون الثاني/ يناير الماضي (بقلم ديفيد سانغر بعنوان «الولايات المتحدة رفضت تقديم المساعدة في غارة إسرائيلية على منشأة نووية إيرانية») أن حكومة أولمرت سبق أن طلبت من إدارة بوش منحها الضوء الأخضر لمهاجمة منشآت نووية إيرانية من خلال ضربات جوية تستخدم فيها المجال الجوي العراقي. فقد أردات حكومة أولمرت أن تستغل الوقت الباقي لهذه الإدارة الأميركية التي كانت الأكثر تعاوناً مع أسوأ مخططات وأعمال قامت بها الدولة الإسرائيلية. لكن الضوء الأخضر لم يُمنح لمجموعة من الأسباب المتنوعة ترتبط بطبيعة العملية غير المضمونة والمحفوفة بالمخاطر، وبتبعاتها السياسية في مرحلة تتكشف فيها أزمة اقتصادية عالمية.
واضح أن إدارة أوباما لن تنقاد إلى المتشددين في إسرائيل بالسهولة التي انقاد بها لهم فريق بوش. ويُرجَّح أن تتجلى للعيان التوترات بين البلدين، إذ إن التطورات السياسية فيهما تسلك حالياً اتجاهَين معاكسَين: ففيما استهلت آخر انتخابات رئاسية أميركية مرحلة من التراجع المطرد عن الاتجاه الذي كان سائداً على امتداد ثماني سنوات من أكثر الإدارات مغالاةً في المحافظة عرفها التاريخ الأميركي، أدت الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة إلى تواصل الميل نحو اليمين الذي بدأ مع انتخاب أرييل شارون في شباط/ فبراير 2001 في أعقاب تسلّم بوش الرئاسة.
هذه هي العناصر الأساسية المكوّنة للمشهد الحالي في الشرق الأوسط: أما تناول التطورات الأخرى ـــــ جهود أصدقاء واشنطن العرب لرعاية مصالحة بين «حماس» والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، والانتخابات النيابية المقبلة في لبنان... ـــــ فسيستلزم أكثر من المجال المتاح له في هذه المقالة. إلا أن سياسة إدارة أوباما برمّتها هي سياسة براغماتية وحذرة تعمل ضمن الخطوط العريضة الموصوفة أعلاه.
* أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)