ليس رجال السياسة شخصيات عامة وإعلامية فحسب، فهم آباء أيضاً. في منازلهم، أبناء «يحبون طبخ البابا» أو يستفزّهم ألا يكونوا، للبعض، سوى «ولاد البابا» رغم أنه مَثلهم الأعلى
سميّة علي ــ محمد محسن
لا تبدي نايلة، ابنة النائب نبيل نقولا، انزعاجاً من المديح الذي يكيله زملاؤها لوالدها بحضورها، ولا من السلامات التي يحمّلونها إياها له.
لكنها تنزعج حين يبحث طلاب أحد التيارات السياسية عن «ابنة نبيل نقولا، لنشوف بعد القتلة إذا حتضل بتشبه بيّا». هكذا، يصرّ محيطها على معاملتها كـ«ابنة النائب»، لا كطالبة، تشبه مئات غيرها في كلية الطب.
أمام البعض منهم، تعجز عن تأكيد استقلاليتها، إذ يعيّرونها بأنها بمثابة «ظلّه»، كما تقول، مضيفة: «كل ما نتحدث بموضوع وقول رأيي، بيقولولي هيدا الحكي بيّك معلمك اياه».
لكن التوتر الذي يسببه لها واقع أنها ابنة النائب لا يؤثر على علاقتها معه في المنزل. فمع عودتها إلى هناك في كل مساء، تكون قد تخفّفت من أية طاقة سلبية اكتسبتها خلال النهار، لتكتسب تلك العلاقة بين أب وابنة صفتها الطبيعية: علاقة حميمة لا تبدأ عند «تغنيج البابا لي» كما تقول، ولا تنتهي عند احتدام النقاش حول كثير من القضايا.
تنوّه نايلة بمسيرة والدها في العمل السياسي، إذ ترى أنه «منسجم مع مبادئه ولا يبدّلها»، وتجد أنه «الأقوى تلفزيونياً بعد الجنرال». فقد تعرّفت نايلة إلى الجنرال ميشال عون عن كثب، طوال 18 عاماً أقامت خلالها مع والدها في فرنسا، قبل عودتهما معه حين عاد إلى لبنان عام 2005.
أكثر كلمة يردّدها على مسامعها هي «ادرسي يا بابا»، أما «أحلى شي»، فهو «لما يطبخ، وخصوصاً الباستا والشوربة»، كما تشهد له.
كأي فتاة، تخاف نايلة على والدها كثيراً، على الرغم من دقة الإجراءات الأمنية التي يتخّذها في تنقلاته، وأهمّها بالنسبة إليه «عدم وجود أي فرد من العائلة معي في السيارة» كما قال، حين حضر في نهاية المقابلة، لتسارع الابنة إلى إحاطته بفحوى الإجابات التي ردت بها على الأسئلة. «شجاع وصاحب حق». بهاتين الكلمتين يصف مصطفى والده، علي عمار.
في منزله الكائن في منطقة برج البراجنة، يجلس مصطفى ويتحدث كسياسي متمرس، رغم اعترافه «لا تشدني كرسي النيابة، فالعمل السياسي يتطلب من الفرد التمتع بهامش من الدبلوماسية، وهذا ما أفتقده كوني صاحب مبدأ واضح لا نقاش فيه. باختصار، حزب الله هو خط أحمر بالنسبة لي»، كما يقول بحزم.
فعلى الصعيد السياسي، لم يحدث أن خالف مصطفى والده. وحتى عندما ترتفع وتيرة الخطاب السياسي لديه، فإن الابن يجد له تبريراً «الموقف يتطلب أحياناً خطاباً من العيار الثقيل حتى إنني أنتظر منه أن يكون أكثر حدّة مما هو عليه أحياناً».
تضحك فاطمة لكلمات شقيقها، إذ إنها لا توافقه الرأي تماماً.
«هو صبور وعادل»، تقول، لكنها تلوم نبرته الحادة أحياناً، كتلك المرة التي تحوّل فيها إلى نجم جلسة نيابية قال خلالها لزميل له:»اللي بدو يحكي عن حزب الله يطهّر نيعو قبل». يومها استنكرت ردّه، وطلبت منه تبريراً، كان «إن الموقف كان يتطلب استخدام هذه اللهجة»، لكنه عجز عن إقناعها.
فالابنة، التي لا تزال في الصف العاشر، قد اكتسبت، بسبب نشوئها في بيت سياسي، ولأن السياسة تلاحقها حتى خارجه، وعياً يفوق سنها. في المدرسة، تتداول صديقاتها وحتى بعض أساتذتها تعليقات لانهائية حول تصريحات والدها.
أما في غرفة هادي وئام وهاب، فصورتان إحداهما للسيد حسن نصر الله، «السياسي المثالي»، كما يصفه، وأخرى للشهيد عماد مغنية، تزينان الجدار.
بالنسبة إلى هادي، الوالد هو «المثل الأعلى الذي خرج من دائرة الإقطاع وصنع نفسه بنفسه». يحترم هادي الخط السياسي الذي ينتهجه والده، معتبراً أن الوقوف إلى جانب المقاومة أمر بديهي. إلا أنه لا ينكر أنه يمرّ بلحظات يتمنى فيها «لو منّي ابن سياسي». فبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تساءلت إحدى زميلاته في المدرسة أمامه «متى سيجرّ وئام وهاب إلى السجن؟». رغم ذلك، تظلّ مزاولة السياسة حلمه، أما رؤيته، فتتمثل بـ«دولة مدنية تغيب عنها كل أشكال الطائفية». بخلافه، تكره أخته رين السياسة التي تجعلها تعيش هاجس فقدان الأب. «ما بقبل إخسرو كرمال أي قضية»، تقول.
«ما كنا نشوفو كتير قبل ما يصير أمين عام، وهلّق نفس الشي»، يقول ابراهيم، نجل الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة، الذي لم تتغيّر ظروف حياته بعدما تولّى والده هذا المنصب. اجتماعياً، بقي حاله كما كان عليه، الأصدقاء والرفاق وحتى من يخالفهم الرأي، لا يتطرقون إلى عمل أبيه بشكل دائم. أما أسرياً، فإن عمل أبيه يفتح مجالاً لعلاقة جدلية وثرية معه، فهما دائما النقاش، و«يا بيقنعني، يا بقنعه». في مدرسته، يصحّح ابراهيم الكثير من المفاهيم الخاطئة عن الفكر الشيوعي لدى جزءٍ من زملائه.
يشير ابراهيم إلى معارضته لبعض مواقف أبيه، لكنّه يستدرك «أكتشف في ما بعد أنّه كان على صواب». يشعر بارتياح لعدم ترشّح والده للانتخابات النيابية، التي لا يعتبرها نيابةً أصلاً، مشيراً إلى أن «موقعه كأمين عام أفضل من النيابة بكثير».
يبدو أبناء السياسيين في أفكارهم السياسية مرآةً لآبائهم، رغم أنهم يحاولون التفلت أحياناً من ضرورة التماثل معهم. يحاولون تحقيق معادلة حرجة بين الشهادات المجروحة، ونقد ذاتي لا يزال السياسيون أنفسهم عاجزين عن تطبيقه، قبل أن يتقنه أبناؤهم.


قيود الإرث السياسي

تعذّرت مقابلة الكثير من أبناء السياسيين الذين حاولت «الأخبار» الاتصال بهم، وخصوصاً أبناء أقطاب الموالاة، فغالبيتهم مسافرون، يعملون أو يتلقون علومهم خارج لبنان. إذ ربما يكون سفر الأبناء حلاً لإنقاذهم من أعباء تحمّل التدابير الأمنية اللازمة في تنقلاتهم والتي تحدّ من حريتهم، أو مخرجاً من ضرورة تحمّلهم صفة «ابن فلان» التي تلاحقهم في تفاصيل يومهم.