لطيفة بوسعدن *الهدوء السائد في المغرب لا يوحي بتاتاً باقتراب موعد انتخابات جماعية (بلدية)، حضرية وقروية. هدوء يذكّرنا بعشية الانتخابات التشريعية لسنة 2007 والتي كان من نتائجها المدوية مشاركة هزيلة للناخبين، وُصفت بالمقاطعة ـــــ العقاب. لكنه هدوء يساعد أكثر سماسرة الانتخابات الذين بدأوا عملهم المبكر في إفساد العملية الانتخابية، رغم كل الإجراءات الاحترازية أو الاستباقية التي اتخدتها الدولة والأحزاب وبعض هيئات المجتمع المدني لقمع فساد انتخابي يمثّل التنافس على البلديات مرتعه المفضل. تُعدّ الانتخابات المحلية المحك الحقيقي للممارسة الديموقراطية، والأرضية الفعلية لتقريب المواطن من الفعل السياسي والحزبي، وطمأنته على عيشه الحاضر والمستقبلي. هذا من حيث المبدأ. لكنّ المشكلة الحقيقية اليوم، التي ما فتئت ترعب كل الأطراف، هي هجرة المواطن لصناديق الاقتراع. سؤال ضعف المشاركة هذا ستكرّسه مجدداً الانتخابات المقبلة. لماذا تعجز المبادرات المتخذة بشأن النزاهة عن ثني المواطن عن العدول عن السلبية؟ ولماذا لا تتخذ وزارة الداخلية خاصة، وهي الوزارة العالمة بخبايا البلديات بالنظر إلى هول الوصاية التي كانت تمارسها عليها، إجراءات أكثر ضماناً للنزاهة، وتتعامل مع المواطن لا بأسلوب الوصلات الإعلامية البائسة التي تحثّه على الذهاب للتسجيل ولسحب البطاقة وللتصويت، في سياق يذكرنا بوطنية شوفينية بائدة... بل بتثوير القانون المنظّم للبلديات ليتجاوز مجرد الدفع بالمنتخَب لتقديم كشوفات حساباته خلال تأديته مهماته مستشاراً بلدياً، إلى تحديد جهة بعينها تضطلع بمسؤولية المساءلة والمتابعة حتى لا تقف النصوص عند «ويلٌ للمصلين».
فالمواطن يعلم أن الإجراءات المتخذة بشأن النزاهة تظل غير قادرة على مواجهة تجذّر الفساد السياسي والمالي. والداخلية تعلم جيداً مكمن مواطن الخلل. أما الأحزاب، فعليها، لكي تستعيد ماء الوجه، أن تبادر اليوم بدورها، قبل الانتخابات، إلى تقديم مختلسي المال العام، من الذين مارسوا الشأن العام المحلي باسمها، إلى القضاء. فكثيرة هي المجالس المحلية (البلدية) التي تقوم سنوياً بالطعن في ميزانياتها السنوية نتيجة سوء تدبير ماليتها، وهو دليل آخر على ما آل إليه الشأن المحلي، ولا سيما أن الانتخابات المحلية تأتي في سياق اجتماعي وسياسي حافل بالعديد من إشارات الأزمة، لا يمكن قراءتها إلا كصعوبات إضافية للمشهد الانتخابي المقبل:
ـــــ هناك أولاً ظلال نكسة الانتخابات التشريعية السابقة التي ما زالت تخيّم على العمل السياسي العام والحزبي خاصة. فنسبة 37 في المئة مشاركة للناخبين قرأها البعض مقاطعة متعمّدة للعملية الانتخابية، وأصبحت بعدها الشرعية السياسية البرلمانية محطّ تساؤل. وقرأها آخرون بوصول تجربة التناوب التوافقي إلى باب مسدود، وعودة المخزن (السلطة) القوي إلى تحالفاته القديمة ـــــ الجديدة، الاقتصادية والسياسية، من خلال خلق صفقات سيكون حزب السيد عالي الهمة، صديق الملك، أحد معالمها البارزة. هو حزب يعلن نفسه، بهدوء وبدون أية عقدة، حزباً أغلبياً سيقود التغييرات داخل المملكة وفق وجهة المؤسسة الملكية، كما تقول تصريحات قيادات حزب الأصالة والمعاصرة، فيظهر كبناء سياسي تنفتح شهيته لكي يكون من جهة بديلاً من الأحزاب التاريخية المنهكة أيديولوجياً، ومن جهة أخرى ليكون حزب نخب جديدة يعوّل عليها القصر كثيراً في بناء قطب سياسي يؤدي دور الاحتياط في حالة إتمام تفكيك الصفقة السياسية الحالية، أو في عودة أهم الأحزاب المؤلّفة للغالبية الحالية إلى المعارضة، فيما لا يستطيع النظام منح ثقته لحزب إسلامي، رغم استعداد هذا الأخير لدخول تجربة التسيير الحكومي ببعثه المستمر برسائل الطمأنة إلى النظام.
ـــــ ثانياً، هناك غليان يسود مختلف الفئات الاجتماعية المحدودة الدخل والمتوسطة، جرّاء الارتفاعات الصاروخية لأسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، ووسط اقتصاد يفتقد هوية خاصة ويرتمي في أحضان عولمة لا يملك وسائل الحد من نتائجها الثقيلة اجتماعياً، وإزاء دولة تنسحب بالتدريج من وظيفتها الاجتماعية وتراهن على اقتصاد موجّه نحو الخارج كانت إحدى نتائجه المرتبطة بالأزمة الاقتصادية الدولية تسريح العمال والمستخدمين ورفع مؤشر البطالة.
ولا يخفى فشل الحكومة في حل الملفات الاجتماعية، وعجزها عن إنجاح حواراتها مع مختلف النقابات. وقد مرت أخيراً بامتحان عسير، عندما شنّت نقابات سائقي النقل العمومي الرافضة لقانون السير الجديد إضرابات امتدت لأسبوع، شلّت معها مختلف المرافق الحيوية للبلاد واستنفرت الأجهزة الأمنية قواتها تحسباً لكل طارئ، واضطرت الحكومة إلى تعليق تطبيق القانون.
ـــــ ثالثاً، وكعشية كل انتخابات، يعود سؤال الإصلاحات الدستورية ليطرح بقوة من طرف الأحزاب الديموقراطية، سواء تعلّق الأمر بتلك المشاركة في الحكومة أو الأخرى الموجودة في صف المعارضة. فإذا كان «الحزب الاشتراكي الموحد» يرى في الانتخابات الجماعية واجهة حقيقية للنضال الديموقراطي وبوابة مشروعة لتأكيد المطالب الدستورية، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لا يرى مشكلة في بلورة مذكرة بشأن إصلاحات دستورية ينوي تقديمها للملك، تضمّنت مطالبه الكلاسيكية الرامية إلى تقليص صلاحيات الملك وإقرار المنهجية الديموقراطية في تعيين الوزير الأول. لكنّ المذكرة ظلت حبيسة الدواليب الحزبية، ولم يطّلع عليها الرأي العام، لأن بعضاً من قادة الحزب يرى أن الظرف لا يسمح بمثل هذه المبادرة، لكن لا بأس من التلويح بها على مستوى الخطابات، لعل من شأن ذلك أن يعيد للحزب هيبته السياسية المفقودة منذ نتائج الانتخابات التشريعية... وقد تكون رسالة يبعث بها لمن يعنيه الأمر، تفيد بأن الحزب ما زال قادراً على أداء دور المعارضة.
لكن لماذا لا تهدد الأحزاب الديموقراطية مثلاً بمقاطعة الانتخابات إلى حين تعديل الدستور؟ ألا يكون ذلك أقرب إلى تصريحات ألفها الناخبون كلما اقتربت الانتخابات.
ـــــ رابعاً: قيل الكثير عن غياب الانسجام بين مكوّنات الحكومة الحالية، وخاصة بين المكوّنين التاريخيين الأساسيين، الحزب الاتحادي وحزب الاستقلال القائد للحكومة. غياب يضرّ باستمرارية العمل الحكومي ويلوّح بتعديل حكومي قد يكون هذان الحزبان الخاسر الأكبر فيه. لم يقف التنافر الحكومي عند إصدار مشاريع قوانين من طرف وزراء مختلفين على الموضوع نفسه، بل أصبحت المناوشات اللغة السائدة بينهما. فمذكرة التعديل الدستوري اعتبرها الوزير الأول تشويشاً يهدف إلى إحراج حزب الاستقلال أمام الملك، ومن جهته، رفض الاتحاد اقتراحاً طرحه وزير استقلالي يقضي بالحسم من أجرة المضربين. صراع أذكته أخيراً تصريحات نارية لعضو المكتب التنفيدي لحزب الاستقلال والكاتب العام لمركزيته النقابية، اتهمت الشهيد المهدي بن بركة، أحد مؤسسي الاتحاد الاشتراكي، بتصفية أعدائه السياسيين. بل هدد الرجل بتقديم شكوى ضد الراحل أمام المحافل الدولية!
فمن سيصالح المواطن مع العمل السياسي الذي يبدأ مع الانتخابات المحلية؟
* صحافية مغربية