إذا كان هربرت مركوز قد حكم في دراسة له في أوائل السبعينيات عن التسامح المجرّد والعملي على الديموقراطيّة الغربيّة (في «موجتها الثانية») بأنها ديموقراطية قامِعة، فيمكن النظر إلى الانتخابات في «الموجة الثالثة» بأنها اختيار غير حرّ يهدف إلى شرعنة من كان يمكن تنصيبه. أي أن مهمة تنصيب وكلاء العالم الأول أصبحت أكثر وثوقاً نتيجة اختلاق وسائل للفرض ولجعل التعيين يبدو اختياراً. أي أن الانتخابات تستطيع أن تنفّذ مشيئة الإمبراطوريّة والمصالح الاقتصاديّة الغربيّة أكثر من قدرة الطغيان التقليدي. لهذا، فإن الولايات المتحدة لم تكذب في رغبتها فرض أشكال من هيمنتها على دول في العالم عبر (ومن خلال) صناديق اقتراع جوفاء (أو مملوءة أحياناً)
أسعد أبو خليل*
يمكن النظر إلى دور العمليّة الانتخابيّة في سند الاحتلال والنفوذ الاستعماري المُتجدّد في نشر صور الاقتراع الدوري في العراق تحت الاحتلال، حتى في حمأة الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة. كانت الولايات المتحدّة التي تقرّر موعد الانتخابات وأهليّة المرشحين (مثل مجلس الخبراء في إيران) تعمد إلى استعمال حفلات الاقتراع من أجل تسويغ احتلالها وعنفها. وموسم الانتخابات مزدهر هذه الأيام إلى درجة أن العائلة المالكة في مملكة القهر السعودية أنشأت مبنى ضخماً ومجهّزاً أحدث تجهيز مقرّاً لمجلس شورى صُوَري. أي أنها أنشأت مجلساً من دون تمثيل أو اقتراع، كما أن طغاة العالم العربي يخطبون أمام جمهرة منتقاة منهم هم، ثم يصدّقون أنهم يواجهون ممثلي الأمة.
صدر قبل سنتيْن كتاب بالإنكليزيّة لبول كوليير بعنوان «الحروب والبنادق والاقتراع: الديموقراطيّة في مناطق خطرة». الكتاب كعادته لم يحظ باهتمام ربما للانشغال بكتب المشاهير وكتب شيوخ النفط وأمرائه. الكتاب يقيّم التأثيرات السلبيّة للانتخابات في دول العالم النامي. وللعولمة جوانب متعدِّدة: منها السياسيّة ومنها الثقافيّة ومنها العسكريّة (أو الحربيّة) ومنها الديموقراطيّة، أو لنُسمِّها عولمة القهر. كانت «الحريّة» هي عنوان غزوات الإمبراطوريّة الأميركيّة أثناء الحرب الباردة، وكانت الحريّة تعني عدم (أو نقيض) الشيوعيّة فقط، لا غير. وبناءً على هذا المعيار، لم تكن الحكومة الأميركيّة لتعترض على حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو على حكومة الحكم العسكري في اليونان أو حكم بينوشيه في تشيلي. يكفي أن تعارض الشيوعيّة لتدخل في حيّز الحريّة الذي ضم في بلادنا طغاة من مقاييس وبزّات ودشداشات مختلفة ومتنوّعة. كانت الإمبراطوريّة الأميركيّة تصرّ على الانتخابات الديموقراطيّة فقط في الدول التي كانت منضوية في المعسكر الشيوعي، وعندما سقطت الشيوعيّة لم تعد مسألة الديموقراطيّة مهمّة في تلك الدول. مثال على ذلك الحاكم بأمره في جورجيا، ميخايل ساكاشفيلي، المليء بالعظات السياسية عن سياسات أميركا (وروسيا أيضاً). والانتخابات إذا أدّت إلى انتصار أعداء أميركا أو خصومها تصبح منبوذة، مثلما تعاملت أميركا مع أكثر الانتخابات ديموقراطيّة في جزء من فلسطين (وإن كانت الفصائل الفلسطينيّة مخطئة في قبول مبدأ الانتخابات في ظلّ الاحتلال، وكأن التحرير يتلو الانتخابات لا العكس) أو ما حصل في جمهوريّة مولدوفا أخيراً حيث نزل خصوم الشيوعيّين إلى الشارع وحرقوا ودمروا ونشروا أعمال شغب ضد انتخابات اعترفت المجموعة الأوروبيّة بديموقراطيّتها. والإعلام الغربي يتعامل بإعجاب مع أعمال شغب وعنف إذا كانت ضد حكومات (ديموقراطيّة أو دكتاتورية، لا فرق) تعارض أميركا، وتعارض حتى التظاهرات السلميّة ضد حكومات تناصر الإدارة الأميركيّة، كما حصل مع التظاهرات ضد حكومة السنيورة في لبنان.
وقد لاحظت مجلّة «الإكونوميست» الرصينة (وقد تكون أفضل مجلّة سياسيّة في العالم قاطبة، وقد حصل ماركس ـــــ الذي واظب على قراءتها في لندن ـــــ على اشتراك فيها من «كولن» في ألمانيا عندما انتقل إليها مؤقتاً عام 1848 رغم خطها الرأسمالي الليبرتاري) أن أعمال عنف وقلاقل صاحبت ورافقت وتلت انتخابات في نيجيريا وزامبيا وكينيا في السنتيْن الماضيتيْن. كما أن الانتخابات في لبنان غالباً ما تتصاحب مع أعمال عنف وقلاقل رغم نزوع خالد ضاهر (الذي نسي البعض أنه دعا إلى الجهاد ضد طائفة من اللبنانيّين قبل أقلّ من سنة) وتيّار المستقبل إلى الوئام والمحبّة اللذين يتقنهما مفتي جبل لبنان أكثر من غيره ـــــ رغم تصريح له أخيراً يؤكّد فيه أن كل عملاء إسرائيل أتوا من «بيئة المقاومة»، وإن لم يقصد أن يكون معنى كلامه طائفيّاً ـــــ مذهبيّاً لأنه من دعاة الوحدة بين المذاهب والأديان. ويمكن الحديث عن هوس الانتخابات في عالم ما بعد الحرب الباردة لأن الولايات المتحدة تريد وسيلة لشرعنة تنصيب أدواتها وحلفائها حول العالم. وعولمة القهر تتأتى من قدرة الولايات المتحدة على فرض أجندة الصورة والمسلك (لا المضمون) الانتخابيين على دولة لا تتماشى مع إرادة الولايات المتحدة. وعولمة القهر هو ما رصدته الكاتبة الكندية نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة» حيث درست معالم العلاقات الدوليّة في الحقبة الحالية عندما تفرض الولايات المتحدة رأسماليّة متوحشة على البلدان النامية وبشتى الوسائل والحيل، حتى لو اقتضى الأمر صدمة الحروب والغزوات (والكاتبة كلاين بدأت بدراسة الظاهرة من خلال تغطيتها غزو العراق ولاحظت أن أولويّات بول بريمر كانت محض اقتصادية). و«عقيدة الصدمة» يمكن أن تلجأ إلى الدعوة للانتخابات إذا اقتضت المصلحة وأن تلجأ إلى منع الانتخابات إذا ما اقتضت المصلحة ذلك (كانت الولايات المتحدة تزمع اللجوء إلى الانتخابات في العراق عندما كانت معارضة المنفى العراقيّة تقنع الإدارة الأميركيّة بأنها قادرة على الفوز بسهولة في أية انتخابات حرّة بعد التخلّص من صدّام، وعندما تيقّنت الولايات المتحدة من بطلان الزعم بعد سقوط صدّام لجأت إلى الحيلة وحاولت التسويق لـ«مجالس معيّنة» من أجل فرض أدواتها ومنفِّذي مشيئتها من أمثال أياد علاوي وشيعة الاحتلال (الذين وفّقوا ويوفّقون بين الولاء للفقيه الإيراني والولاء للفقيه الأميركيالحديث عن تقييم الديموقراطيّة هو في جانب منه حديث عن مقاييس الديموقراطيّة ومعاييرها، وخصوصاً أن منظمات ما يسمّى (زوراً أحياناً بسبب الارتباط المالي بالدولة هذه أو تلك، والذي ينفي حكماً التعريف الهيغلي لها) بـ«المجتمع المدني». فمنظمة «بيت الحريّة» في نيويورك عملت خلال الحرب الباردة على التعامل مع موضوع الحرية الاقتصاديّة الرأسمالية كصنو للحريّة بمعناها المطلق من أجل تدعيم موقع الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفياتي. ومعايير «بيت الحريّة» تخضع لشتى الاعتبارات الانتقائيّة والاعتباطيّة، مع أن المنظمة أدرجت إسرائيل، للمرّة الأولى، في خانة الدول ذات «الحريّة الجزئيّة» (مقابل دول «حرّة» ودول «غير حرّة»)، رغم إدراجها الكويت فوق مرتبة لبنان في حريّة الصحافة، وهذا دليل إضافي على جهل معايير المنظمة وانحيازها. لكن كتاب كوليير لا يعنى بذلك لأنه مهموم بشؤون طقوس الانتخابات، والهوس بحدوثها في البلدان النامية وكأنها الحلّ السحري: وهذا ينطوي على أغراض غير بريئة لدى دول الغرب التي تعرف كيف تستفيد من فرص الانتخابات ليس للتأثير على نتائجها عبر المال والمساعدات والقروض (ويُقحَم في هذا منظمة النقد العالمية والبنك الدولي اللذان تدخّلا في التسعينيات لإنقاذ ـــــ بإيعاز من إدارة بيل كلينتون ـــــ بوريس يلتسن من سقوط محتوم بسبب ظهوره مخموراً ومترنّحاً في حملته الانتخابيّة، بالإضافة إلى شرعنة الحلفاء والوكلاء والطغاة «المعتدلين»). والفيلسوفة حنة أرندت أدرجت الاقتراع في حد ذاته في خانة «العمل» لا في خانة «السياسة» التي تعتمد على الحوار والنقاش والمناظرة والتضاد الفكري والسياسي الدؤوب. ولو قُيض للسيدة أرندت أن تشهد خطب سعد الحريري في قريطم (الذي يستسيغ لعب الـ«إكس بوكس» كما روى لمجلّة «النيوربلك» الصهيونيّة المتطرّفة والتي ـــــ مثلها مثل عدد من المطبوعات الصهيونيّة الغربيّة ـــــ حظيت بدعوة كريمة من شركات ومؤسّسات مُمولّة من آل الحريري في لبنان لضمان تغطية مُتعاطفة في زمن الانتخابات، مع أن المطبوعات الصهيونيّة مُتعاطفة حكماً مع 14 آذار من دون دعوات سخيّة من شركات تابعة) لأدرجت تلك الخطب في خانة ثالثة مختلفةوالخلاصة التي توصّل إليها كوليير وغيره أن الانتخابات بحدّ ذاتها، وفي غياب لمعايير حقيقيّة للديموقراطيّة غير الاقتراع المحض، تعوق ولا تدفع قدماً بتقدّم بلد معيّن. ويقول كوليير إن الديموقراطيّة ـــــ إذا كانت محصورة بالانتخابات ـــــ مُضرّة بالعمليّة الإصلاحيّة. وأدبيّات الديموقراطيّة نمت وازدهرت في عصر ما بعد الحرب الباردة، وطلع صموئيل هنتنغتون بنظريّة «الموجة الثالثة» (في تمييز عن الموجة الأولى في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر والموجة الثانية في أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية) للإشارة إلى صعود الديموقراطيّة في العالم الثالث منتصف السبعينيات حسب تقويمه هو. ولم يكترث هنتنغتون مثل كوليير، بمعايير الديموقراطية وبشروط تقدم البلدان المعنيّة بها. ويعتقد كوليير أن الانتخابات هي ذات فعالية إيجابيّة فقط في البلدان التي يتوافر فيها التوازن والضوابط في الحياة السياسية وحيث يسود حكم القانون العادل. ويحلّل كوليير عوامل أخرى معوقة للديموقراطيّة مثل الانشطار الإثني والبطالة والديموغرافيّة الشبابيّة. ويكمن النظر إلى المعادلة تلك في النظر إلى تجربة بعض البلدان العربيّة.
من يختلف، مثلاً، حول كون الانتخابات في العراق (وهي صُوريّة نتيجة وجود جيش احتلال واسع النفوذ يتدخّل في الشاردة والواردة ويعمل على توظيف مشيئته بالوسائل العلنيّة والخفيّة، والديموقراطيّة الصوريّة هي التي حذّر كوليير من ضررها) قد زادت من حدّة الانشطارات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة في البلاد، كما أن الانتخابات النيابيّة في لبنان تزيد دائماً من حدّة الانشطارات الطائفيّة والمذهبيّة؟ هذا لا يعني أن غياب الانتخابات هو أفضل من وجودها، لكن اختزال الديموقراطيّة بالانتخابات هو إساءة لفهم العمليّة الديموقراطيّة ولطبيعة الإصلاح السياسي والاجتماعي المنشود في بلد ما. وعوائق الديموقراطيّة ليست نهائيّة وليست مُلزمة أو حتميّة في مصير الشعوب، وهناك نماذج معاصرة لإزالة عوائق الديموقراطيّة مثل ما حصل في تنزانيا أو في رواندا بعد المجازر البشعة عام 1994. ويتحدّث المؤلف عن جوليوس نيريري بإعجاب شديد لأنه جهد لبَوتقة هويّة جامعة. ومثال رواندا في الأعوام الأخيرة هو أيضاً مثال ساطع لأن الرئيس الراوندي رأى أن الانشطار الذي زرعه المستعمر بين «الهوتو» و«التوتسي» لا يتوافق مع عمليّة بناء الديموقراطيّة. لهذا، فإن قانون منع التطهير العرقي يحظّر العرقيّة من أساسها ويحرّم حتى الإشارة إلى الانقسام بين «التوتسي» و«الهوتو». وهناك غرامات باهظة لمن يخالف القانون الذي يسعى إلى صهر الشعب في رواندا في إطار هويّة وطنيّة جامعة من أجل فرض حكم القانون. (لكن بعض المنظمات القانونيّة الغربيّة والراونديّة اعترضت على صرامة القانون، وخصوصاً أن أكثر من ألف مخالفة تعرّضت للملاحقة وفق أحكام هذا القانون).
ماذا لو نقلنا التجربة إلى لبنان أو العراق؟ ماذا سيحلّ بداعي المذهبيّة والطائفيّة نوري المالكي الذي دعا أخيراً من تلفزيون الدعاية الأميركيّة «الحرة» إلى حكم الأغلبيّة الشيعيّة؟ ماذا سيحلّ بفريق آل الحريري في لبنان لو أن قانوناً قد سُنّ لتحريم الإشارة إلى الفرقة السنيّة والشيعيّة في لبنان؟ ماذا سيحلّ بخطاب مصباح الأحدب (الذي يزعم أنه ـــــ مثل غيره من النواب والوزراء الذين أتوا باعترافهم بإرادة الاستخبارات السوريّة في لبنان ـــــ حورب رغم إغداقه المدائح على حافظ الأسد وعلى بشار من بعده) لو أن الإشارة إلى السنّة والشيعة تُعتبر مخالفة للقانون؟ هناك أكثر من رجل دين سيضطرّ إلى إصدار فتاوى وبيانات من السجن «لو وصلت شرائعهم إلينا»، كما قال طانيوس عبده ذات مرّة. لكن من الجدّة الحديث عن جملة من الإصلاحات الجذريّة التي لا تستقيم الديموقراطيّة من دونها حتى لو جرت انتخابات دوريّة. والانتخابات تجري في أكثر من بلد عربي متسلّط مثل سوريا والأردن والمغرب. والنظام الانتخابي ـــــ أو إصلاحه ـــــ هو جزء لا يتجزأ من الإصلاح السياسي الضروري الذي يتطلّبه تحقيق انتخابات ديموقراطيّة ذات فوائد جمّة. أي أن الكلام في بيانات المعسكريْن المتنازعيْن في لبنان عن الإصلاح لا معنى له إذا لم يكن مقروناً ببرامج محدّدة لإصلاح النظام الانتخابي (يكتفي مرشحو الفريقيْن بالثناء على «نظام انتخابي عصري»، وكأن الإشارة محدّدة ومُتعارف عليها بين دارسي النظم الانتخابيّة) ولإنتاج هويّة وطنيّة جامعة (قد تكون ـــــ أو يجب أن تكون ـــــ مستحيلة في مسخ الوطن الذي أُنشئ رديفاً وظهيراً للكيان الغاصب). وإذا كانت الانتخابات في الأردن تعزّز، بإرادة هاشمية ملكيّة، الانقسامات القبليّة، فإن الانتخابات في الكويت هي أيضاً انشطاريّة وانقساميّة وضامنة لاستمرار السيادة الأميريّة. أي أن الانتخابات من دون محتوى ديموقراطي قد تكون أسوأ من غيابها: واندلاع الصراعات الأهليّة إثر الانتخابات الصوريّة أو غير الديموقراطيّة هو الدليل.
قد يُقال إن علّة الانتخابات تكمن في تحقيق الشرعيّة التمثيليّة، لكن هذا القول باطل أيضاً إذا كان النظام الانتخابي غير مُنصف وغير عادل. فالشرعيّة التمثيليّة لنوّاب مجلس النواب عام 1972 كانت أقل من الشرعيّة التمثيليّة لغير المُنتخبين في الكثير من المناطق اللبنانيّة، وفي هذا جانب أو بعد واحد (من أبعاد عدّة) للحرب الأهليّة. والإصرار على تفصيل قوانين انتخابيّة على مقاس مصالح طائفيّة أو حزبيّة أو إقطاعيّة (ما يُسمى «جيري ماندرينغ»، والكلمة استُنبطت عام 1812 في مدينة بوسطن للإشارة إلى تشطير للدوائر الانتخابيّة) يتعارض مع الديموقراطيّة السياسيّة (لكن من الضروري التمييز بين الـ«جيري ماندرينغ» الإيجابي ـــــ أي لزيادة تمثيل المحرومين تاريخيّاً ـــــ والـ«جيري ماندرينغ» السلبي ـــــ أي لحرمان فئات شعبيّة على أسس متنوّعة). وكان كميل شمعون (مثله مثل أنصار السيادة البيضاء في جنوب الولايات المتحدة عبر العقود) يجيد لعبة الـ«جيري ماندرينغ» لإبعاد أخصامه. والقانون الانتخابي الحالي أتى تعبيراً عن إرادة البطريرك الماروني الذي أراد أن يجعل الانتخابات النيابيّة فرصة لتأكيد (والتعبير عن) الانشطار الطائفي والمذهبي وفقاً لمعادلته الشهيرة عام 2005 عندما صاح: فلينتخب المسلمون النواب المسلمين ولينتخب المسيحيّون النواب المسيحيّين. (ويزيد البطريرك عظات ـــــ أين منها عظات أبو ملحم ـــــ عن تداول السلطة في النظم الديموقراطيّة يظهر فيها مفتقراً إلى المعرفة في الموضوع).
هذا الحديث يجب ألا يعني بشكل من الأشكال وصفة لإطالة أمد الأنظمة التسلّطية في العالم العربي (على اختلاف تحالفاتها الإقليميّة)، كما يفعل ليبراليّو الوهابيّة في إعلام أمراء آل سعود وآل الحريري. لكن الإصرار على (أو المطالبة بـ) الانتخابات يجب أن يترافق مع جملة من الإصلاحات التي من دونها لا يستقيم الإصلاح الديموقراطي. وهذه الإصلاحات تشمل في ما تشمل، إقصاء السلالات الحاكمة (الملكيّة والجمهوريّة والسطانيّة) عن الحكم لأنها تتمتّع بقوّة غير مستمدّة من الشرعيّة الشعبيّة، بالإضافة إلى أنها تتمتّع بقوّة السيطرة على أجهزة استخبارات الجيش. والإصلاحات يجب أن تمنع التدخّلات السياسيّة والمالية والعسكريّة التي تؤثّر على مسار العمليّة الاقتراعيّة. ما معنى، مثلاً، أن تعلن مملكة القهر السعوديّة مساعدة لحملة السنيورة الانتخابية في صيدا تحت مسميّات المساعدات الإنسانيّة للبنان؟ طبعاً، لم تلاحظ المنظمة اللبنانيّة الهزلية من أجل ديموقراطيّة الانتخابات هذا الإعلان. وهذا ليس بالأمر السهل ويضفي نوعاً من الشك والريبة على العمليّة الانتخابيّة برمّتها في العالم الثالث، لأن الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من دول الاستعمار البائد والمتجدِّد خبيرة في وسائل التأثير بالمال والرشى على الاقتراع في كل انتخابات الدول الفقيرة. ونحن نعلم من وثائق منشورة من أيام الحرب الباردة أن الولايات المتحدّة كانت تتدخل بقوة في الانتخابات الإيطاليّة، مثلاً، لمنع الحزب الشيوعي الإيطالي من الوصول إلى السلطة، وكان هنري كيسنجر يضغط بشتى الوسائل على الأحزاب الإيطاليّة لإقصاء أحد أقوى الأحزاب آنذاك متذرّعاً بضرورات القوى العظمى وحساباتها.
يمكن النظر إلى انتخابات طرابلس كمثال أو نموذج عن طبيعة الانتخابات (غير المترافقة مع مؤشرات الديموقراطيّة) في بلدان الانشطارات الاجتماعيّة. يتنافس (أو يأتلف) في طرابلس ثلاثة من أصحاب المليارات ذوي العلاقات الماليّة مع آل سعود. أي أن الناخب (والناخبة التي قلّما يتوجّه لها المرشح أو المرشحة بكلمة باستثناء استعمال كلمة «نسوان» للتعيير بين المتنافسين) يختارون فقط بين مليارات متطاحنة (أو مؤتلفة ـــــ لا فرق).
ولا تقتصر التدخّلات على الحكومات الغربيّة بل تتعدّاها لما يُسمّى «منظمات المجتمع المدني» أو «المنظمات غير الحكوميّة». وماذا تعني عبارة «غير حكوميّة»؟ هذا مثل وصف جريدة مملوكة من واحد من أمراء آل سعود بـ«المستقلّة». فالتمويل الأميركي والأوروبي لمنظمات غير حكوميّة في بلدان العالم الثالث أو الفقير (مع أن راشد فايد أفتى أخيراً بأن فريق 14 آذار لا ينتمي إلى العالم الثالث) يؤثّر على نوعيّة التغطية وعلى أولويّات عمل ما يُسمّى غالباً «منظمات غير حكوميّة» (كأن يقول مراسل مجلة الـ«نيو ربببلك» الصهيونيّة المتعصّبة إنه تلقى دعوة لزيارة لبنان من «منظمة غير حكوميّة» تابعة لآل الحريري). المنظمات تلك تستطيع أن تقرّر، مثلاً، أن ما يُسمّى «ختان الإناث» أكثر ضرراً على النساء من القصف الجوي بالطائرات والاحتلال والقمع على يد أعوان أميركا من طراز حسني مبارك وغيره من طغاة الشرق الأوسط. تستطيع أن تقرّر، مثلاً، أن سلطة محمود عباس المنتهية ولايته أكثر شرعيّة من سلطة منتخبة وغير منتهية الصلاحية للمجلس الاشتراعي، وهكذا دواليك.
التغيير (الجذري) ضرورة قصوى في بلداننا ولا يستحق نظام واحد التأييد أو البقاء. لكن اختزال عمليّة التغيير ومطالبه بالانتخابات في عنوانها العريض يؤجّل عمليّة التغيير ويسدل ستاراً من الشرعيّة على النخب الحاكمة (من دون شرعيّة انتخابيّة). يجب أن يقترن مطلب الانتخابات بمطالب أخرى متعدّدة تتضمّن المسألة الاجتماعيّة ـــــ الاقتصاديّة والمسألة الوطنيّة ضد الاحتلالات، بالإضافة إلى الإصرار على نظام انتخابي لا يصيب الشعب بالتشظّي. وإلا، فنحن محكومون بإبدال محمد الصفدي بنجيب ميقاتي، أو العكس (وهناك داعي السلفيّة الأحدب لمن يرغب). لكن نقولا فتوش وعد بمحاربة الفساد. إنها... «الديموقراطيّة».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)