9 سنوات مرت على تحرير الأراضي الجنوبية من الاحتلال الإسرائيلي. اليوم، بعد هذه السنوات، يعيش الفلسطيني شعورين: شعور «الغيرة» من اللبناني الذي تحررت أرضه، وشعور «المرمطة» الذي يواجهه على الحواجز في كل مرة يقصد فيها الأراضي المحررة
راجانا حمية
«كانت المرة الأولى. سعسع أمامي. تفصلني عشرة أمتار عنها فقط. أنا الآن أطير من الفرح. أنا الآن أبكي. أصرخ. أكفر. تؤلمني هذه المواجهة. رميش في 25 أيار 2000». عندما كتب أبو خالد هذه السطور، اكتفى بهذا القدر من الوصف، ظناً منه أن المواجهات مع أهالي سعسع ستتكرّر، و«يا خوفي ما يعود يساع دفتري للخبريات».
لم يخطر في بال العجوز حينها، أن تكون المواجهة التي أرشفها في دفتر مذكّراته، هي الأخيرة. كما لم يحسب أن تنتهي المواجهة التي كان من المفترض أن تكون الثانية، بعد عشرة أيام على التحرير عند حاجز للجيش اللبناني عند مفرق بلدة رميش، قبل 600 متر من سعسع. يومها، اشترى سواراً من الذهب هدية إلى قريبته التي كانت ستلاقيه خلف الشريط الحدودي، واستقلّ الباص متجهاً إلى الجنوب. غير أن فرحته باللقاء الذي شُغل برسم سيناريو له، انتهى بقرار عسكري مفاجئ عند الحاجز الطيار قبل رميش: «هوياتكم. الفلسطينيي يللي ما معهم تصريح ينزلوا».
انتهى السيناريو. عاد العجوز إلى بيته في كميون عسكري، وفي جيبه الهدية. حمل دفتر مذكّراته، وكتب: «أنا الآن أبكي. لن أرى سعسع مجدداً». اتخذ العجوز قراره، بعدما عمّمت قيادة الجيش قراراً بمنع الفلسطيني من زيارة الأراضي المحررة إلا بتصريح، بسبب محاولة البعض تهريب صواريخ إلى داخل فلسطين. هكذا، بات الفلسطيني الراغب في زيارة الأراضي المحرّرة لإلقاء نظرة بعيدة على مدينته، يحتاج إلى «فيزا»، حاله في ذلك حال العابرين الأجانب. لم تسعفه إقامته الطويلة التي تعدّت 60 عاماً، في معاملته كواحد من أبناء البلد. فإضافةً إلى حرمانه حقوقاً كثيرة، يأتي حرمانه التنقّل بحريّة في الأراضي التي له منها الكثير. وإن فكر في الذهاب إليها، فيجب عليه تقديم تقرير مفصّل عن سبب الزيارة، وعن المكان والشخص المقصودين، إلى الاستخبارات قبل 3 أيام. وبعد دراسة الطلب، تمنح القيادة الشخص المعني «رقماً» هو بديل اسمه، يخفّف عنه إجراءات التفتيش عند الحواجز. وتراوح فترة منح الفلسطيني الرقم بين 24 ساعة و10 أيام، إن كان زائراً «مسالماً». وإذا لم يكن كذلك، كأن يكون مشتبهاً باسمه، فقد يُعتقل أو يُمنع نهائياً من زيارة تلك الأراضي.
«مسالم أو مشتبه به. المعاملة واحدة. مرمطة بمرمطة». يقول علي السيد، مسترجعاً المرة الوحيدة التي قصد فيها الجنوب عام 2007. يومها، جُرح الشاب الفلسطيني مرتين. الأولى، عندما قام العسكري بـ«إذلاله» أمام رفاقه اللبنانيين. والثانية، عندما وصل إلى أرضه التي تقع في رميش «شعرت بالغيرة من رفاقي اللبنانيين لأن أرضهم تحرّرت، وبالغيظ من الرجل الذي يزرع أرضي».
اكتفى السيد بتلك المرة، فيما آخرون لم يفكروا في زيارتها «ولا مرة، إلّا إذا فتحوا الحدود ورجعنا نهائياً». أصحاب هذه النظرية كثيرون، وهم غالبية أبناء المخيمات. أما السبب، فواحد: «كي لا نشعر بالإهانة عند الحواجز التي تُعاملنا كغرباء». لكن، لو أتيحت الفرصة لهؤلاء لإلقاء نظرة سريعة على قراهم، «لكان 25% من اللاجئين يزورون الشريط الحدودي أسبوعياً»، يؤكّد أبو علي طلال، الملقّب بـ«ملك» تحصيل الأرقام من الاستخبارات وتسهيل الزيارات.


أمن لا «مرمطة»

يرفض مصدر عسكري في استخبارات الجيش أن يضع ما يخضع له الفلسطيني في خانة «المرمطة»، مشيراً إلى «أن استخبارات الجيش تحتاج إلى معرفة الداخلين إلى الأراضي المحرّرة من غير اللبنانيين، وهو إجراء لأخذ العلم بالزائرين، لكون منطقة جنوب الليطاني منطقة عسكرية». ويبرّر الرجل هذا الإجراء بالقول إنه «نوع من الأمان، وإن كان الفلسطيني هو الوحيد في لبنان الذي يخضع لهذا التدبير لكونه أجنبياً».