داني الأمينفي مثل هذه الأيام، أعاد مشهد التحرير الاعتبار لطفولتي المُصادَرة. في مثل هذه الأيام، كان البعض يذرف دموعه كلما اقترب من وادي السلوقي، ليس فرحة بالتحرير فحسب، بل حزناً على قريب أو رفيق سقط شهيداً بالقرب من الوادي الذي لم يكن أبناء الجيل الجديد يعرفون معالمه رغم قربه من مساكنهم. ليس بعيداً من الوادي، ومن الموقع الإسرائيلي في برعشيت تحديداً، سقطت والدتي وشقيقتي التي لم تطفئ شمعتها الثامنة عشرة، شهيدتين منذ واحد وعشرين عاماً.
في تلك الأيام، شعرتُ بالضعف والذلّ، فمجاهدو المقاومة الإسلامية كانوا لا يزالون في بداية عملهم الاستشهادي، وصواريخ الكاتيوشا لم تكن جاهزة بعد للردّ على الاعتداءات الإسرائيلية. لم أشاهد حينها على شاشات التلفزة أي إدانة أو استنكار وحتى إعلان نبأ المصيبة التي قتلت طفولتي، وأنا في الثانية عشرة من عمري أشاهد جسدَي أمي وأختي أمامي وقد شوهتهما شظايا قذيفتين إسرائيليتين من دون أي ذنب. عرفت وقتها معنى «السلاح» ومعنى «تسوية الحسابات» و«عناقيد الغضب» ولكن قبل حربي تموز عام 1993 ونيسان عام 1996 بكثير...
ولما جاء التحرير في عام 2000، وجدت نفسي أقصد وحيداً الموقع الذي كان إسرائيلياً، ووقفت هناك على حافّته لأنظر كيف استطاع ذلك العميل أن يقصف منزلنا بدم بارد. وأنا اليوم لا أعرف كيف يكون شعار أكبر حملة انتخابية في بلدي الانتقام من هذا «السلاح» الذي جعلني أصعد بفخر إلى قمّة ذلك الموقع.
في مثل هذه الأيام، ما زلت أذكر جيداً ذلك المشهد العظيم، حين تجمّع المئات من الأهالي من القرى المحاذية للشريط الحدودي سابقاً، بالقرب من وادي السلوقي، ليقتربوا شيئاً فشيئاً قاصدين دخول بلدة حولا. هنا على أول طريق الوادي، سقط أمثل حكيم شهيداً بعدما فجّر عبوة برتل من الدبابات الإسرائيلية عام 1984، ما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى الإسرائيليين. وفي أسفل الوادي سقط العديد من الشهداء، من بينهم الشهيدان حسن حبّ الله وسمير خلف. وعند مدخل بلدة حولا المحرّرة سقط الشهيد محمد نصّار الذي صادف أن أمضيت معه عصر يوم استشهاده ساعة من الحديث والنقاش من دون أن أعرف أنه سيلتحق في ذلك اليوم بالاستشهاديين.
أما اليوم، وبعد تسع سنوات على التحرير، ما زلت أسير بسيارتي على الطريق الطويلة والمريرة نفسها للقرى المحرّرة التي لم تعبّده حكومتي حتى الآن منذ ما قبل الاحتلال الإسرائيلي.