strong>ناهض حتر*روّجت صحيفة «القدس العربي» في تقرير غامض لمراسلها في عمان (20 أيار 2009) عن قرار يتبلور في أوساط القصر الملكي للقيام بـ«ثورة بيضاء» ضد البيروقراطية التقليدية (أو للدقة، ما بقي من رجالها ونفوذها في جهاز الدولة الأردنية). شعارات «الثورة» الآتية من فوق «ليبرالية»، وهدفها خلق «أطر سيادية» مستقلة عن البنى الدستورية والحكومية القائمة، وتوسيع دائرة التشاور وتعددية وجهات النظر المقدمة إلى الملك الذي سيظل يحتفظ بالقرار.
ولا يشير التقرير إلى خلفيات هذا التوجه، ولكنه مع ذلك أضاء على ما يتوقعه العديد من المراقبين لجهة تغيير مرتقب في بنية الدولة الأردنية، يسمح باستيعاب صدمة خطة التوطين والمحاصصة التي اقترحتها الدبلوماسية الأردنية على واشنطن كجزء من صفقة سلام كبرى مع إسرائيل، تُشطب فيها قضية اللاجئين، ويُعوّض عليهم مالياً، ثم سياسياً، بمنحهم نصف الدولة الأردنية. والواقع أنّ العرب غائبون عن المسألة الأردنية، أو أن الأردن غائب عن الوعي العربي، إلى الحد الذي يمكن شخصيات وأحزاباً أن تتبنى خطاباً ممانعاً على المستوى العربي، من دون أن يمنعها ذلك من تبنّي المشروع الأميركي في الأردن كاملاً، والدفاع عنه بضمير مرتاح من عاقبة انكشاف التناقض مع صورتها الافتراضية. تحتفظ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بصورة المنظمة المبدئية المتمسكة بخيار المقاومة. وهي صورة راسخة إلى درجة أن أحداً لم يلتفت إلى العلاقات الودية للجبهة مع عمان التي، فيها بالذات، أقام جورج حبش المبجل كثوري عربي، أيامه الأخيرة ورحل إلى بارئه محاطاً بكل صنوف التكريم الملكي. فهل يعود ذلك إلى الكرم الأردني أم إلى موازين القوى؟ لو كان الأمر كذلك، لشمل ذلك الكرم مناضلين بعثيين أردنيين قضوا عقوداً في السجون السورية، لكنهم الآن، في شيخوختهم، معزولون، ويعاني بعضهم معاناة شديدة لتدبير سبل العيش. لم يقدم حبش في نهاية حياته، تنازلات للنظام الأردني. ولكن فرع الجبهة الشعبية في الأردن، واسمه الكامل «حزب الوحدة الشعبية الأردني» هو، في الخطاب والممارسة السياسية معاً، حزب موال لنهج الخصخصة واللبرلة والتوطين والمحاصصة السياسية القائمة على طيّ ملف اللاجئين.
لن أسرد هنا مواقف حزب الجبهة في هذا الاتجاه، فالمساحة لا تسمح، ولكنني أعيد القضية إلى منبعها الأول. فصفقة تحويل فرع الجبهة في الأردن إلى حزب أردني، تضمنت من حيث المبدأ القبول بالتوطين السياسي وشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين في الأردن. وإلا ما الذي يفسّر تحوّل حركة تحرر فلسطينية إلى حزب أردني مرخص في إطار القوانين الأردنية؟
السؤال نفسه مطروح على فرع الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في الأردن، المرخص تحت اسم «حزب الشعب الديموقراطي الأردني» الداعي صراحة إلى التوطين والمحاصصة. هنا، مع الجبهة الديموقراطية، لن يواجه المرء على كل حال عناء التحليل. فالأمين العام للجبهة، نايف حواتمة، أصبح بالفعل جزءاً من النادي السياسي الرسمي في الأردن. وهو ينسق مع المعنيين الدعاية المضادة للمقاومة الفلسطينية الإسلامية، تحت شعار العلمانية.
تتحرك الدبلوماسية الأردنية لإنجاح المشروع العربي الأميركي لدولة فلسطينية على أقل من حدود 67، من دون القدس، ومن دون سيادة، مقابل شطب حق العودة، والتطبيع مع 57 دولة عربية وإسلامية. وهو الخيار الأقل سوءاً من وجهة نظر النظام الأردني الذي أصبح مستعدّاً للقبول بنصف الدولة على أن يخسرها كلها. وهو في ذلك يتناقض جزئياً مع المشروع الإسرائيلي لمنح الكانتونات الفلسطينية المقطعة الأوصال في الضفة وغزة حكماً ذاتياً محدوداً كحل دائم في إطار السيادة الإسرائيلية، و«الاستجابة للمطلب الدولي بتأسيس دولة فلسطينية، ولكن في الأردن»، حسب اقتراح كتلة وزير خارجية العدو ليبرمان، المقدم للكنيست الإسرائيلي! المشروعان يتقاطعان في شطب حق العودة نهائياً. والخلاف هو على مكان الدولة الفلسطينية المنزوعة السيادة: في «مناطق فلسطينية» أم في الأردن؟ وعلى طبيعتها: دولة محاصصة فلسطينية هاشمية أم دولة فلسطينية صافية؟
المفاضلة بين المشروعين، ومن ثم اللهاث من أجل دعم أوباما ضد نتنياهو ــــ ليبرمان، تثير الضحك أكثر مما تثير السخط. فالمشروعان يؤديان إلى النتيجة نفسها: طرد المزيد من الفلسطينيين من أرضهم، وحرمانهم من حقوقهم في بلدهم، وتأمين الشرعية والأمان والتوسع للكيان الصهيوني. ولعله آن الأوان لكي نسجّل هنا بوضوح، أن ثمة تواطؤاً إقليمياً في هذا الاتجاه. وهو تواطؤ يشمل الجميع، ما يضع الشعب الأردني أمام خيار وحيد هو الاستعداد لدفع إتاوة التاريخ، ليس فقط إزاء كلفة إطلاق مقاومة سياسية ومسلحة ضد إسرائيل، ولكن أيضاً لاستنهاض الوعي الوطني المقاوم بين صفوف فلسطينيي الأردن، نحو وحدة كفاح لا وحدة محاصصة. مصر، والسعودية إلى حد أقل تبلوراً، تدعمان الخيار الإسرائيلي بالكامل. إنهما لا تؤيدان خيار المناصفة الذي تطرحه عمان ما دامت تلوح فرصة الخلاص، بالنسبة للقاهرة، من أردن يبحث عن مركزه القومي في بغداد أو دمشق، لا في القاهرة، وما دامت تلوح أمام السعوديين فرصة الخلاص من أعدائهم التاريخيين، العائلة الهاشمية. لكن سوريا وحزب الله وحماس، أي قوى الممانعة والمقاومة، هي أيضاً لا تنبس ببنت شفة للتضامن مع الشعب الأردني وكيانه وهويته ومستقبله. وخشيتي أن أطراف الممانعة والمقاومة لا تصمت عن كسل، بل عن حسابات. ليس لدي شك بأن إيران تضمر الحقد على النظام، والشعب، الأردنيين، اللذين كانا في مقدمة أنصار الرئيس الراحل صدام حسين في الحرب العراقية ـــــ الإيرانية. لقد وقف الوطنيون الأردنيون، بلا تحفظ، مع العراق في تلك الحرب، وتطوّع بعضهم للقتال، وبعضهم للنصرة السياسية والإعلامية، وشربوا كلهم أنخاب البهجة عندما تجرّع الخميني سم الهزيمة أمام الجيش العراقي. وطهران التي لا تزال منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003، تطارد الضباط والطيارين العراقيين الذين ألحقوا بها الهزيمة، بكل صنوف المطاردة الإجرامية والاغتيال، لا أظنها تكنّ سوى مشاعر الانتقام نحو الأردن. وهي تأمل بتقويض استقراره ومدّ نفوذها إليه. ولعل ذلك ممكن أكثر مع دولة فلسطينية على أرضه. لقد علمتنا تجربة التواطؤ على تحطيم دولة العراق، أن أجندة طهران قد تتقاطع مع أميركا وإسرائيل. والأردن هو، من الناحية الاستراتيجية، امتداد للعراق، وحليف دائم له من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري إلى العهد البعثي. وسيكون للأردن، تحديداً، شأن أساسي في دعم استعادة العراق دولته وسيادته ونفوذه العربي. وهو ما ليس بخافٍ عن طهران.
هل لطهران علاقة بالصمت السوري ــــ الحزب اللاهي ــــ الحمساوي، إزاء المخططات الصهيونية المتصاعدة ضد الأردن؟ أوليس عجيباً أن قوى الممانعة والمقاومة التي تتصدى لكل ما يصدر عن إسرائيل من إجراءات أو مشاريع، تصمت هذا الصمت البليغ إزاء إجراءات وتصريحات ومشاريع قرارات ضد الدولة الأردنية؟
نحن نفهم، ولا نتفهم، تناقضات حزب الله، المقاتل العنيد ضد إسرائيل، والمتواطئ في الوقت نفسه مع استراتيجية طهران المعادية للدولة العراقية. يمكننا أن نضيف هنا: الدولة الأردنية.
وربما نفهم، ولا نتفهم، حسابات حماس التي لا تريد الاصطدام مع النظام الأردني ولا مع تيارات توطينية بين فلسطينيي الأردن أو حتى مع مزاج التوطين والمحاصصة في الأردن.
لكننا لا نفهم أبداً الموقف السوري الصامت إزاء التهديدات المتصاعدة ضد الكيان الأردني. فمن الناحية الاستراتيجية، يمثّل الأردن عمقاً صافياً لسوريا. وهذا ما وعاه دائماً الرئيس الراحل حافظ الأسد. وهو عمق لا يتأثر بالسياسات الرسمية الأردنية، بل هو قادر على لجمها دائماً لمصلحة وحدة البلدين الاستراتيجية. ولا نعرف كيف لا تقلق دمشق من شطب الوطنية الأردنية الحليفة لها، لحساب قوى معادية تقليدياً للدور السوري، سواء في أوساط النظام أو أوساط منظمة التحرير الفلسطينية؟ سيصبح الأردن اللاأردني خاصرة قاتلة للدولة السورية ودورها الإقليمي.
الصمت الأكبر إزاء المخططات الإسرائيلية، بالطبع، هو المدوّي في عمان، حيث تجتمع الحكومة الأردنية لا للبحث في التطاول الخطير الذي مثله مناقشة الكنيست الإسرائيلي إقامة دولة فلسطينية في الأردن، ولكن للبحث في إعفاءات ضريبية وجمركية وتقديم المزيد من التسهيلات للمستثمرين في «سوليدير عمان»، الإقطاعة الأردنية لآل الحريري.
الشعب الأردني وحيد في مواجهة مخطط الإلغاء. لديه حليف ممكن: التيار الوطني العريض بين فلسطينيي الأردن. وأمامه خيار وحيد: المقاومة.
* كاتب وصحافي أردني