منى عباس فضل*من حين إلى آخر، يتغنى الكويتيون مرددين الأهازيج الجميلة بأن الكويت «هي نبض قلوبهم ونور دروبهم وهي كل الحب وشمس الشموس وتاج الرؤوس وأحلى من العروس». بيد أن ذلك لم يخف جوهر الأزمات السياسية المتتالية التي غدت تحط على رأس رابع دولة منتجة للنفط الخام في أوبك، كما لا يخفي حقيقة ما تملّكهم من خوف على وطنهم وسمعة ديموقراطيتهم التي وجدها البعض تمثّل نمطاً لمعيشتهم وحريتهم. معلوم أن الانتخابات تحركت على وقع سياسي مضطرب شابته الشكوك وفقدان الثقة بسبب استشراء الفساد، وبروز من أطلق عليهم تسمية «عناصر التأزيم»، وسوء استخدام أدوات الرقابة البرلمانية وتطويعها للمصالح الفئوية ولأطراف النفوذ، ما أدى إلى تعطيل المشاريع الاستثمارية والتنموية، فيما يعاني اقتصاد الكويت من تأثيرات الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها المدمرة. وكل ذلك رغم ازدياد الحديث عن مرونة النظام الديموقراطي الكويتي. في السياق، ولمعرفة المزيد عن التجربة الانتخابية الكويتية، ثمة أربع محطات يمكن التوقف ناحيتها:
ـــــ الأولى، ما أفاد به الباحث الكويتي «أحمد الديين» عن أهمية النظر إلى مدى توافر التجربة الانتخابية على عنصري الحرية والنزاهة، والأهم على الفعالية وتحقيق المقاصد والوظائف. فالتجربة برأيه طويلة، وأثبتت دورانها في رحى نظام سياسي وانتخابي يشتمل على مؤسسات وقوانين، بمعنى أنه يتمتع بالحد الأدنى من مبادئ الديموقراطية الواردة في دستور 1962 وقيمها، وما كفله من حقوق وحريات عامة وتداول، حتى وإن غابت الأحزاب السياسية عن نصه الذي لا يلزم بحريتها ولا يحظرها، بل يفوض أمرها إلى المشرّع العادي. وحسب وقائع التاريخ، جاء الغياب تنفيذاً لإصرار ممثّل الأسرة الحاكمة في لجنة إعداد الدستور.
وصحيح أن الدستور كفل تداول السلطة التشريعية، إلا أنه قيّد تداول السلطة التنفيذية، ولم يشترط حصول الوزراء على ثقة مجلس الأمة. وبالتالي، لا يمكن سحب الثقة من الحكومة ككل، بل تسحب من الوزراء منفردين، وعبر آلية تقديم «الاستجواب» البرلماني الذي يطرح الثقة بأحد الوزراء، بعد توقيعه من عشرة نواب. فضلاً عن أن مجلس الأمة لا يملك صلاحية سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، بل يمكنه فقط إعلان عدم التعاون معه، ورفع الأمر إلى الأمير الذي يقرر إما تنحيته وإما حل المجلس، تماماً كما حصل عند استقالة الحكومة وحل البرلمان في آذار/ مارس الماضي.
تتكشف ممّا سبق القيود التي تحد من تداول السلطة، وكذا ما تعاني منه الديموقراطية الكويتية من نقطة ضعف، علماً بأن منصب ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء والحقائب الوزارية السيادية (الداخلية والدفاع والخارجية) بقيت محصورة في إطار أسرة آل الصباح. وعليه، فآلية العملية الانتخابية والتمثيل السياسي البرلماني التي يخلص إليها «الديين»، محدودة الفرص على مستوى السلطة التنفيذية، فضلاً عن إنها لا تنتج فرصاً جديدة لمحاسبة الوزراء، لكون أغلبهم معينين من غير النواب المنتخبين.
المحطة الثانية، تتعلق بأداة «الاستجواب» التي غالباً ما تسبب تكرار الأزمات بين النواب ومجلس الوزراء، وخصوصاً عند تصاعد وتيرة المناقشات المتصلة بشبهات إرساء المناقصات أو أملاك الدولة أو هدر المال العام أو تقاسم النفوذ وما شابه. إذن، أصل الأزمة قديم ومتجدد، ويكمن في طبيعة النظام السياسي ومؤسساته وآلياته، وكذا في القوانين التي تعاني من سلبيات ونواقص تتمثل في احتكار السلطة التنفيذية للصلاحيات، مثل تمتع وزارة الشؤون والتنمية الاجتماعية بسلطة مطلقة لإشهار أي ناد أو جمعية، وتقييد حق المواطنين في الوصول إلى المحكمة الدستورية للطعن في دستورية أي قانون يخالف الدستور. ومنها أيضاً المتعلق بمعيار حرية الانتخابات ونزاهتها، إذ دعت أطراف أهلية إلى إنشاء هيئة وطنية للإشراف على الانتخابات ومعالجة ظاهرة المال السياسي وشراء الأصوات، ما يعني العمل على تعديل قانون الانتخابات لتقنين المصروفات التي ينفقها المترشحون وتحديد سقف لها ومعرفة مصدرها، فهناك تدخل فاقع للمال السياسي، حسبما رصد المراقبون.
أما المحطة الثالثة، فعلى الرغم مما خلص إليه المتفائلون في تحليلهم من أن أكثر من 60% من الكويتيين اختاروا التغيير ورفضوا الانقسامات المذهبية، فغيروا وجوه 40% من النواب وأتوا بأربع نائبات، إضافة إلى ما لقّنوه من درس قاس للاتجاه الإسلامي المحافظ والمتشدد (السلفي والإخوان المسلمون)، إلا أن الحكومة في النهاية هي من ربح وحصد مقاعد الأغلبية، فضلاً عن احتمال تجدد الأزمة بعد سيطرة القبائل على أكبر دائرتين انتخابيتين، وفوز بعض «نواب التأزيم» منهم، ممن اختلفوا مع الحكومة السابقة في شكهم في وجود مغانم وصفقات تجري خارج دوائرهم. ومع الأخذ في الاعتبار حلول نائب سابق في المرتبة الأولى في دائرته وتحقيقه أعلى الأصوات (18779)، وهو كان قد أشار أثناء حملته، وقبيل صدور مرسوم الدعوة لإجراء الانتخابات خلال الستين يوماً، بعدم دستورية إشراف «حكومة تصريف العاجل من الأمور» على الانتخابات، مستنداً إلى المادة 107 التي تشير إلى أنه «لا يجوز للحكومة المستقيلة الإشراف على الانتخابات العامة». ماذا يعني هذا؟ بوضوح: ترجيح قصر عمر المجلس المنتخب، وأن الطريق سالكة لإعادة إنتاج الأزمة التي ستدور رحاها هذه المرة حول عدم دستورية الانتخابات وإفساح المجال للطعون الانتخابية، وهذه بالطبع ستضاف إلى سابقتها (أزمة استجواب رئيس مجلس الوزراء الذي أعيدت تسميته للمنصب نفسه من الأمير مجدداً)، وهي بمجملها تعبّر عن طبيعة صراع على النفوذ بين الدولة والقبيلة، بل قُل الصراع على المغانم!
المحطة الرابعة، تتعلق بتغير مؤشر التصويت طبقاً لتوتر المناخ السياسي. وجاءت نسبته 58 بالمئة حالياً بالمقارنة مع 85 بالمائة عام 1963، مسجلا تراجعاً مطرداً. في جانب من هذا دلالة على تغلغل قوى الفساد في المجتمع، التي سعت، كما صرح النائب أحمد السعدون «إلى إقناع المواطنين بعدم التصويت انطلاقاً من الموقف بعدم جدوى الممارسة الديموقراطية». وبرأيه، من يقود هذا التوجه طرفان، الأول حاول إجهاض الدستور والاستيلاء على السلطة منذ البداية، أما الثاني فقد أعطي نفوذاً لا يستحقه. وأدى تحالف هذين الطرفين إلى الاستيلاء على المال العام وأملاك الدولة، ولهذا جاء تصديهم لأي قانون يسعى إلى تنظيم الاقتصاد وإنعاشه، وهم أنفسهم من يسعون إلى تعديل الدستور وتعطيل الحياة النيابية.
ستظل إذن هذه النتائج تتحرك في دائرة الأزمة وتثير السجالات والأسئلة.
* باحثة بحرينية