strong>ياسين تملالي*لم يعد انتقاد عدم استفادة الاقتصاد الجزائري من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حكراً على المنظمات اليسارية والنقابات العمالية وبعض جمعيات أرباب العمل. فبعد سنوات من الانتظار ومن الخسائر الجسيمة، أقرّت الحكومة على لسان وزيرها للتجارة، الهاشمي جعبوب، بأن هذه الاتفاقية لم تكن لصلحة البلاد وأن فوائدها عادت حصراً على الأوروبيين.
لا جدال في أن هذا الإقرار حدث بالغ الأهمية. فطوال السنوات التي استغرقها النقاش بشأن الاتفاقية ثم التفاهم على بنودها، ضرب النظام عرض الحائط بكل التحذيرات من عواقبها إذا لم يحسن التفاوض عليها، وكان واضحاً أنّ هدفه من توقيعها سنة 2002 لم يكن تحسين موقع الجزائر الاقتصادي بفتح أسواق جديدة لمنتجاتها، بقدر ما كان انتزاع مساندة الاتحاد الأوروبي لعبد العزيز بوتفليقة وهو يبدأ عهده السعيد، أي أن «مصالح البلاد العليا» ضُحّي بها على مذبح مستقبل الرئيس السياسي.
وتبين حصيلة اتفاقية الشراكة منذ دخولها حيز التنفيذ في أول أيلول/ سبتمبر 2005 عدم توازن المنافع بين الجزائر وشركائها الأوروبيين. فإذا غضضنا النظر عن المحروقات (98 بالمئة من مجموع عوائد الصادرات الجزائرية)، فإنّ كفّة الميزان التجاري مع الاتحاد الأوروبي مائلة لمصلحة هذا الأخير بنسبة واحد إلى عشرين، أي أن كل دولار تجنيه الجزائر من تصدير مواد خام أو بضائع (غير المحروقات) إلى هذه المنطقة يقابله عشرون دولاراً يجنيها الاتحاد من صادراته إليها. ولا تزال الصادرات الجزائرية من غير المحروقات إلى بلدان الاتحاد تراوح مكانها منذ سنوات طويلة. ولم يغيّر في واقع الأمر شيئاً إعلان الحكومة في مطلع كل عام رغبتها في «تفعيل تصدير السلع والمواد غير الطاقوية». هذه الصادرات لم تتجاوز مليار دولار السنة الماضية، فيما مثّلت الواردات من الاتحاد الأوروبي في السنة نفسها ما لا يقل عن 55 بالمئة من إجمالي قيمة الواردات. وقد نمت هذه الواردات بين سنتي 2005 و2008، بنسبة كبيرة، 80 بالمئة، فبلغت 20،8 مليار دولار بعدما كانت في حدود 11،2 مليار دولار (الواردات الصناعية قفزت من 9،8 مليارات دولار إلى 17،7 مليار والزراعية من 1،2 مليار إلى 2،8 مليار).
وتفسر الحكومة استقرار الصادرات الجزائرية من غير المحروقات في مستواها الضعيف الحالي بـ«المصاعب التنظيمية والتقنية المرتبطة بدخول السوق الأوروبية»، كما يقول مدير التجارة الخارجية بوزارة التجارة. وقد أعطى هذا المسؤول مثالاً بليغاً على ذلك: منذ 2007 حتى اليوم، لم تنجح الجزائر في إقناع السلطات الاقتصادية الأوروبية بإلغاء رسم بنسبة 13 بالمئة (وهي ضريبة ضد إغراق الأسواق) يُفرض على صادرات شركة «فرتيال» من الأسمدة بحجة أن إنتاجها يستعمل غازاً مدعم السعر من طرف الدولة، ما يحظره التشريع الاقتصادي الأوروبي. وللتذكير، فإن كلاً من الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية يطالبان الحكومة الجزائرية بتحرير أسعار الطاقة الداخلية، وهو ما لا تزال ترفضه لحسن الحظ.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي، باسم «مكافحة المنافسة غير الشرعية»، وضع العديد من العراقيل في وجه المصدرين الجزائريين، إلا أن هذا لا يعني أن الحكومة غير مسؤولة عن ضعف الصادرات إلى هذه المنطقة. فباعتراف مدير التجارة الخارجية بوزارة التجارة، لم تستغل الجزائر كل الامتيازات التي تعطيها إياها اتفاقية الشراكة، فهي مثلاً لم تستنفد سوى ستة من واحد وأربعين إعفاءً من الرسوم الجمركية تخص إحدى وأربعين مادة وبضاعة يمكن تسويقها في دول أوروبا في حدود كميات معينة دون دفع حقوق للجمارك. بالإضافة إلى ذلك، فهي استنفدت هذه الإعفاءات الستة بنسب ضعيفة لا تتعدى 10 بالمئة، فيما استنفد الاتحاد الأوروبي كل ما تمنحه الاتفاقية من إعفاءات وبنسبة 100 بالمئة.
أدركت الحكومة أخيراً العواقب الوخيمة لاتفاقية الشراكة على الاقتصاد الجزائري، إلا أنها حسب ما يبدو في حاجة إلى مزيد من الوقت لتفهم أن المشكلة ليست فقط «كيل الاتحاد الأوروبي بمكيالين» دفاعاً عن مصالحه الآنية والمستقبلية، بل هي أيضاً عدم قدرة الاقتصاد الوطني على منافسة الاقتصاديات الرأسمالية القوية، وحاجته الماسة إلى إجراءات الحماية ذاتها التي تلجأ إليها كبرى الدول المصنعة دون «وازع ضمير ليبرالي». وقد أعطت الحكومة الدليل على عدم إدراكها هذه الحقيقة البديهية من خلال تصريح لوزير التجارة، عاب فيه على الأوروبيين «عدم تنفيذهم التزاماتهم المكتوبة بمساعدة الجزائر على أن تصبح عضواً في منظمة التجارة العالمية» (كذا).
ويعد هذا التصريح أصدق تعبير على تذبذب مواقف السلطات الجزائرية من الخيار الليبرالي وافتقارها إلى استراتيجية اقتصادية واضحة تمكنها من تفادي تكرار الأخطاء نفسها. أليس غريباً أن نندد بمساوئ منطقة التبادل الحر مع أوروبا ونعلن في الوقت ذاته الرغبة في توسيعها إلى كل الدول المصنعة دون استثناء؟ وإذا كان المنتَج الجزائري عاجزاً في عقر داره على منافسة أسوأ أنواع المنتجات الصينية، فكيف له أن ينافس أجود المنتجات الصينية في الصين؟
* كاتب وصحافي جزائري