نهلة الشهالبدأت رواية «دير شبيغل» بمقدّمة أدبيّة: «كان عملاً ذا أبعاد شكسبيرية. مأساة عائلية تتضمن جريمة وانتحاراً. إبداعاً ودموعاً حقيقية...». تسمع الموسيقى التفخيمية ترافق العبارات القصيرة، كأنها تتهدّج. أو ربّما يختار المخرج الاستغناء عن الموسيقى، حتى لو كانت قرع طبول، واللجوء إلى قوة صوت خفي مدوٍّ ينقطع فجأة عند النقطة. هذا يتوقّف على الذوق السائد: كوكاكولا تكيّّف نسبة السكر والغاز حسب مكان الاستهلاك. وهذا علمٌ يا سادة، يدرّس في الجامعات وله مكاتب متخصصة تُجري دراسات واستطلاعات رأي دورية... علمٌ قلنا لكم!!
بعدها تحتشد الأسئلة التي لا تقل صياغتها درامية عن المقدمة: «لماذا كان على الحريري أن يموت؟» (عليه؟؟ والأرجح أن الصيغة تقصد الحتمية التاريخية لا الخيار الشخصي). حتى تبدأ أشياء أخرى في التوالي: التفاصيل! وهذا فن الرواية. قصة هواتف نقالة كثيرة، والخطأ الصغير الذي لا بد أن يقع، فلا جريمة كاملة، حسب أغاتا كريستي التي تجاوزها كتّاب القصص البوليسية في الإدارة الأميركية: أقصد أن هناك حقاً مكتباً مكلفاً بهذه الكتابة، واسمه Creative Technology ICT) Institute for) وقد تأسّس عام 1999 بتعاون مباشر بين البنتاغون و... هوليوود. (ويمكن المشككين الذين يظنّون أنّي «معادية بدائية لأميركا»، كأقراني من اليساريين/ الإسلاميين (تعبير على الموضة، ينتمي هو الآخر إلى عالم صناعة الوهم بأقل كلفة ممكنة) أن يدقّقوا بذلك على «غوغل» إذا كانت قراءة الأبحاث الجادة عن الموضوع تضجرهم). الخطأ الصغير إذاً: اتصال عنصر حزب الله بصديقته من أحد أرقام الهواتف، «الحارة»، كما تقول «دير شبيغل» الرصينة، واضعة الوصف بين قويسات، في إيحاء لا يُخفى، مبتذل إلى حد أنه قد يثير مخيلة صبي مراهق فحسب (مع الاعتذار منهم). والشاب معروف حسب الرواية، فهو من قرية كذا، واسمه كيت، وتلقى تدريبات في إيران (where else؟). بل لعله لم يعد على قيد الحياة، فقد اختفى منذ ذلك الحين! حبكة ضمن الحبكة، وهذا أيضاً من لزوم فن التشويق.
الختام: يختار له المقال أسئلة تشكيكية، حرصاً على الموضوعية طبعاً: «لكن ذلك يُبقي الهدف من الاغتيال غير معروف. وكان كثيرون يملكون مصلحة في موت الحريري. لماذا يكون حزب الله، أو داعموه في إيران، مسؤولين؟». يا الله! تعودون إلى تضييعنا بعدما قلتم لنا. ولكنه، عزيزي القارئ، لزوم الحبكة من جديد، وليس بيت القصيد.
ما يغيظ أكثر من سواه هو الابتذال. فإن كان المقياس إنتاج بضاعة على ذوق المكان، فهذا يعني أن الجماعة الذين يقفون وراء الرواية المنشورة في «دير شبيغل» يحتقرون مستوى المكان أي احتقار. بل إنّ «دير شبيغل» التي نشرته شريك، فللألمان في بيروت معهد ثقافي نشيط وفيه أذكياء، ويفترض بالصحيفة أن تستفيد منه... كما تفعل كوكاكولا مع شركات الاستطلاع والدراسات قبل تعديل نسبة السكر في مشروبها! ولكن يبدو أن دون دليللو وروائيّي هوليوود تركوا الصياغة لمتدرّبين.
أين بيت القصيد؟ الادعاء أولا بأن «المعلومات» مسرّبة من أوساط المحكمة الدولية، وهذا ابتغاء صدقيتها. هل ستنفي الناطقة باسم المحكمة ذلك في اليوم التالي؟ لا يهم، فوظيفة الشائعة تحققت، إذ من سيعود للاهتمام بالتدقيق سوى قلة قليلة. وصل «الخبر» إلى الشارع، فقد نشرته جريدة النهار، وأذاعته قناة «العربية»، وعادت جريدة «لوموند»، وهي الأخرى رصينة، فنشرته، مما يمنحه صدقية مضاعفة.
قبل خبرية «دير شبيغل» بأيام، نشرت مواقع إلكترونية متنوعة خبرية أخرى على لسان سيمور هيرش تقوّله ما لم يقل، أو تمد تأكيداته إلى حيث يحبّ أصحاب الخبرية أن تمتد: قال الصحافي الكبير والحائز جائزة بوليتزر، وكاشف العديد من القصص البشعة الكبرى، إن نائب الرئيس السابق، ديك شيني، أنشأ مجموعة عمليات خاصة (اسمها JSOC: اذهبوا إلى الإنترنت!) مستقلة عن كل هيئة ورقابة، مهمتها اغتيال شخصيات عبر العالم، وهو ما قامت به. واستند إلى ذلك ليؤكد مبلغ الجنون الذي وصلت إليه عصابة المحافظين الجدد. ولكنه لم يقل إنها اغتالت الحريري، فعمد بعضهم إلى الإضافة من عندياته، ولكنه فشل في خلق «رواية»، فلم يكن لديه «دير شبيغل» ولا من يحزنون: قلنا لكم علمٌ يا أغبياء، وليس خبط عشواء.
البروباغندا: «عمل أو مجموعة أعمال متّسقة تهدف إلى إيصال مضامين سياسية أو إيديولوجية ونشرها بواسطة تقنيات التلاعب ووفق وسائل إذاعة متنوعة». هذه خلاصة التعريف، منذ كتاب ادوارد برنيز الشهير في العشرينيات من القرن الفائت وحتى آخر المؤلفات المختصة اليوم. سوى أنه في زمن برنيز كان هناك الراديو أسرع وسيلة للنشر، أما اليوم...
وأما حزب الله، وهو هدف هذه البروباغندا، فيدرك ولا شك أنها جزء من خطة، رأينا بعض فصولها وسنرى أخرى: خطة لا تطال سمعته، بل وجوده! وهما فصلان من رواية واحدة. أما إبطال الخطة أو إفشالها، فلا يكون عبر السلاح فحسب...