strong>ديما شريفأن تجلس مع المنظِّر الماركسي وعالم الجغرافيا دايفيد هارفي، يعني أن تتهيّأ لجلسة دسمة من التحليل الماركسي والديالكتيكي للأزمة المالية العالمية، فضلاً عن مجموعة من النكات بشأن كلّ ما قد يخطر على بالك. عندما تسأله لماذا اختار دراسة الجغرافيا، يجيبك «كنت أملك مجموعة كبيرة من الطوابع، ورغبت في معرفة أين يقع كل بلد تعود إليه هذه الطوابع»، ثم يضيف «كما أنني كنت أرغب في الفرار من المنزل». هارفي الذي تستضيفه الجامعة الأميركية في بيروت مساء اليوم ليقدّم ندوة «الجذور الحضرية للأزمة المالية»، لا يتحدّث كثيراً عن طفولته. يؤكد أنّها كانت عادية، شابها الكثير من التنقّل بسبب عمل الوالد في مراكز إدارية عدة في أحواض إنتاج السفن العسكرية. يتذكّر الحرب العالمية الثانية، التي بدأت حين كان في الخامسة، وكيف عانى الجميع الصعوبات الاقتصادية إثر انتهائها.
لم تكن العائلة تتحدّث في السياسة داخل المنزل، ولم يكن هارفي يعرف ميول والده السياسية. كان الوالد يردّد دوماً أنّ المحافظين خُلقوا ليحكموا، فيما العمال لا يعرفون شيئاً. لكنّ دايفيد الصغير أخذ عن جدته مناصرتها لحزب العمال، الذي لم ينتسب قطّ إليه. ثم في نهاية الستينيات وبعد فترة حكم «العمال» مع هارولد ولسن، ابتعد عن الحزب الذي خيّب آماله.
هل يتصرّف كأهله مع أولاده؟ «بالطبع لا» يجيب هارفي، لكنّه لا يفرض عليهم شيئاً في السياسة: «تعرف ابنتي ما هو رأيي، وهي لديها رأيها الخاص وتشارك في بعض ندواتي». تتدخّل ابنته ديلفينا لتؤكد أنّه عند الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي في أميركا العام الماضي، سألته من سينتخب، فأخبرها أنّه سينتخب مَن تختاره هي، لكنّه صعق حين مازحته واقترحت هيلاري كلينتون.
عندما فكّ صاحب مبدأ «التراكم عبر النهب» ارتباطه مع حزب العمال في نهاية الستينيات، كان قد صدر كتابه المرجع في الجغرافيا «في تفسير الجغرافيا»، الذي يصنّفه بعضهم نصاً استثنائياً في منهجية الجغرافيا وفلسفتها، طبّق فيه هارفي مبادئ فلسفة العلوم على علم الجغرافيا. كان وقتها يدرّس الجغرافيا في جامعة «بريستول» في إنكلترا، فتركها وعبر الأطلسي باتجاه جامعة «جونز هوبكينز» في أميركا التي بقي فيها حتى 2001، مع فترات متقطّعة قضاها بين فرنسا وموطنه الأصلي. في «جونز هوبكينز»، بدأت رحلته مع كارل ماركس قراءةً لكتاب «رأس المال» وتدريساً له. «بدأت قراءة ماركس لأفهم بطريقة أفضل ما يدور حولي»، يقول هارفي، الذي انتقده بعض علماء الجغرافيا لأنّه يقول بعدم وجوب بقاء الجغرافيا حيادية. «كلّ الجغرافيين كانوا يعملون مع الدول المستعمرة، وكلّ أساتذتي الجامعيين كانوا عملاء للإمبراطورية البريطانية» يرد هارفي. ويرى صاحب «حدود رأس المال» (1982) أنّه غير المنطقي عدم تدريس الكولونيالية والاستعمار والإمبريالية لطلاب الجغرافيا، فهذه الموضوعات تدخل في صلب اختصاصهم.
لا ينفي العالم والمفكّر تأثّره بالجو الطلابي الثوري أواخر الستينيات في أميركا، مع الحركات المناهضة للإمبريالية ولحرب الفيتنام، ليبدأ منذ 1971 تدريس المجلّد الأول من «رأس المال». يخبرنا كيف أنّ بعضهم لم يفهموا ماذا يدرس، إذ إنّه ليس من المعتاد أن يدرّس أستاذ جامعي لأكثر من ثلاثة عقود كتاباً واحداً. «يسألني بعضهم ماذا أدرس فأجيبهم CAPITAL، فيعتقدون أنني أدرس عواصم الدول!». في «جونز هوبكينز» أصدر كتاب «العدالة الاجتماعية والمدينة» (1973) الذي استخدمه مرجعاً حتى 2005 باحثون في أكثر من 1000 دراسة. يشرح هارفي في كتابه الذي يصدر بعد أشهر في طبعة جديدة، كيف أنّه من غير الممكن أن تبقى الجغرافيا «موضوعية» في وجه الفقر الحضري وأمراضه، ويرى أنّ الرأسمالية تقضي على المكان لتتأكد من إعادة إنتاج نفسها مجدداً.
في أواخر الثمانينيات عاد إلى أوكسفورد، في بريطانيا، حيث أصدر كتابه في نقد ما بعد الحداثة The condition of Postmodernity (1989)، لكنّه لم يلبث أن عاد إلى الولايات المتحدة، بالتيمور أولاً، ثم جامعة نيويورك. علّم دايفيد هارفي في أكثر من بلد، لكنّه يفضّل العمل في أميركا، لأنّها تتيح له التدريس والكتابة في الوقت نفسه. ويشيد بطلاب الجامعات الأميركية الذين يتمتعون بالخبرة مقابل الفردية في بريطانيا. يؤكّد لنا أنه يعشق التدريس، ولا ينوي التقاعد قريباً، علماًَ أنّه يعتبر طلابه أصدقاءه، يعرض عليهم فصولاً من كتبه ليأخذ رأيهم فيها قبل النشر، ولا يتوانى بعد انتهاء الصفوف عن تناول كأس معهم.
أما المحطة الأبرز في حياته التعليميّة، فهي انتقال صف رأس المال إلى الشبكة العنكبوتية أخيراً. طلابه اقترحوا تصوير المحاضرات وعرضها على موقع إلكتروني. بدأ ذلك قبل حوالى سنة، ومنذ ذلك الحين وصل عدد طلابه الافتراضيين إلى آلاف عدّة، منتشرين في ما يقارب 450 مدينة عبر العالم. وزاد عدد مشاهديه منذ بداية الأزمة المالية العالمية التي تناولها في أكثر من محاضرة. ويتذكر كيف أوقفه أحدهم في أحد شوارع برلين، حيث يعلّم هذا الفصل، ليقول له «ألست ذاك الذي يدرّس ماركس على الإنترنت؟». وهو أصلاً كان يفتح محاضراته أمام العامة ــــ مثل ميشال فوكو ــــ تاركاً لكلّ من يرغب المشاركة فيها. ويشعر بالسعادة حين تصله رسالة من شخص يشكره على قيامه بتبسيط «رأس المال». في الحقيقة هو لا يرى «رأس المال» معقّداً إلى هذه الدرجة، بل يعتبره ممتعاً، ويعتبره معادلاً لرواية تولستوي «الحرب والسلم» في مجال العلوم الاجتماعية. ويفكر في الانتقال إلى تدريس المجلد الثاني من الكتاب قريباً. قبل نهاية العام، يُصدر دايفيد هارفي ثلاثة كتب الأول هو نسخة جديدة من كتاب «العدالة الاجتماعية والمدينة» (1973)، الثاني يشمل كل محاضرات رأس المال الإلكترونية، أما الثالث، فعنوانه «الكوزموبوليتيّة وجغرافيا الحرية». ويعرّف لنا حين نسأله، أنّه لا يقرأ كثيراً هذه الأيّام. لماذا؟ لأنّه متفرّغ للكتابة، وهو يعجز عن القراءة حين يكون في هذه الحالة. لكنّه لا يضع فيتو على أي كتاب. عندما كان يحضّر لـ «باريس، عاصمة الحداثة»، عمله عن باريس في عهد الإمبراطورية الثانية، والأحداث التي رافقت كومونة باريس، قرأ كلّ ما استطاع إيجاده لإميل زولا وفلوبير وغيرهما من الروائيين الفرنسيين، ليعرف فعلياً كيف كان المجتمع آنذاك. يعمل هارفي منذ سنوات مع مجموعات طلابية ناشطة في الحقوق المدنية، وينظّم بالتعاون مع بيتر ابن الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز، محاضرات في موضوع التوسّع المدني، وحقوق المدن وسكانها. وهو ينصح كلّ من فقد منزله بسبب الأزمة المالية بأن يحتلّ أي منزل فارغ غير آبهٍ بالتبعات القانونية. وينتقل إلى الحديث عن عدم أخذ المنظرين الماركسيّين إيّاه على محمل الجد لأنّه جغرافي. أما الجغرافيّون، فلا يحبونه لأنّه نقل هذا العلم إلى مركزه الصحيح أي الماركسيّة. ينتقل هو إلى الأسئلة، ويسألنا عن المنظر الماركسي الأكثر شهرة وتأثيراً في لبنان. يتبادل الأصدقاء المشاركون في الجلسة الصغيرة على شاطئ البحر النظرات، ليتطوّع أحدهم ويجيبه بأنّه لم يعد هناك منظرون ماركسيّون في لبنان، بعدما دخل البلد، الذي يعشق هارفي نبيذه، عصر النيوليبرالية المعولمة.

يلقي دايفيد هارفي مساء اليوم محاضرة بعنوان «الجذور الحضرية للأزمة المالية»، عند السادسة في قاعة Hostler Auditorium ــــ الجامعة الأميركية في بيروت


5 تواريخ

1935
الولادة في مقاطعة كنت (بريطانيا)

1969
صدور كتابه «في تفسير الجغرافيا» الذي يعدّ مرجعاً في منهجية الجغرافيا وفلسفتها

1982
صدور «حدود رأس المال» الذي يعيد فيه تنظيم أفكار ماركس الاقتصادية

2007
انتخابه عضواً في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم

2009
يشارك في «منتدى الماركسية» في لندن في تموز (يوليو) المقبل، وتصدر له ثلاثة كتب قبل نهاية العام