في العقود الماضية طُبعت عيتا الشعب بالمقاومة والتحرير حتى عدوان تموز. عشرات الأناشيد والقصص رُويت عن بطولات مقاوميها الذين تصدّوا للاجتياح الإسرائيلي. إلّا أن معظم الروايات كرّست وجهاً واحداً للبلدة، التي تستحق أيضاً أن يُدرج اسمها في لوائح البلدات التراثية، وذات المواقع الأثرية والطبيعية المميزة
عيتا الشعب ــ آمال خليل
منذ انتهاء عدوان تموز حتى اليوم، تحوّلت الحارة القديمة في عيتا الشعب (قضاء بنت جبيل)، وتلالها لناحية فلسطين إلى محطات ثابتة ضمن جولات مئات الوفود الرسمية والشعبية من لبنان ودول العالم. وقد أصبحت مقصداً لعشرات المتطوعين الشباب اللبنانيين والأجانب، الذين شحذوا الهمم لرفع أنقاض بيوتها التراثية والحديثة، وإعادة إعمار ما تهدّم من حارات سكنية وبنى تحتية. لكنّ آلاف الأشخاص الذين مرّوا أو سكنوا فترةً فيها، لم يسترشدوا إلى استكشاف المغاور الطبيعية، وبقايا الأجران والمعاصر والمدافن الأثرية المنتشرة في أنحاء مختلفة من البلدة القديمة، وعند أطرافها التي بقي العِلم بها حكراً على أهالي عيتا الشعب، وجوارها، والمديرية العامة للآثار في أحسن الأحوال.
حتى عام 1967، خسرت عيتا الشعب تدريجاً نحو 400 دونم من أراضيها المتاخمة لفلسطين المحتلة، والمتداخلة مع أراضي بلدتي طيربيخا والنبي روبين، وموقع البلاطة التي جرفتها إسرائيل، وحوّلتها مستعمرة شتولا، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. نكبة فلسطين لم تجرف كروم التين والزيتون والعنب بل غيّرت خارطة عيتا، وأغلقت بوابة طيربيخا، وقطعت طريق التجارة مع بلداتها الشمالية، وخصوصاً عكا، فضلاً عن لجوء الكثيرين من أهالي البلدتين إلى عيتا.
تكاثر عائلاتها واتساع آفاق الحياة بدآ منذ ذلك الحين، ينعكسان على أشكال عمرانها، إذ بدأ الإسمنت يشق طريقه بين المنازل القديمة. وتروي خديجة شرارة (89 عاماً) «أن الأحجار حلّت مكان الطين قبل أن يأكلها الإسمنت. وخلال ثلاثين عاماً بنيت مع زوجي محمد حسن سرور نحو 150 بيتاً من الحجر، بمعاونة عمّار من عيناتا، كان يتولّى تصميم طرز المنازل، من غرف واسعة، وشرفة أمامية تتقدّمها قناطر ودرج طويل يصل إلى السطح. وكنا نقتلع الأحجار من صخر أودية عيتا، ونقّطعها بواسطة الألغام المصنوعة من بودرة البارود والملح. ومن ثم ننقلها على ظهور الجمال حتى البلدة، ويبدأ تشييد البيوت».
وكان أقسى ما شاهدته خديجة في حياتها هو تحوّل بيتها الذي عمّرته بيديها أكواماً من الدمار، بعدما جرفه الإسرائيليون في العدوان الأخير، فضلاً عن «تلاشي بيوت الحجر تدريجاً حتى باتت تسمّى البيوت التراثية، بسبب زحف بيوت الإسمنت». فالبيوت الحديثة خطفت من الحارة القديمة بيوتها التراثية، التي جُرفت 10 منها خلال العدوان الأخير، ودمّرت 10 منازل أخرى، فيما سيعاد ترميم 12 منزلاً.
وقرر البعض الاستغناء كلياً عن منزله التراثي المتضرر، مثل نزيه دقدوق، الذي فضّل جرف منزل عائلته المبني عام 1920، وتشييد آخر حديث «بسبب ارتفاع كلفة ترميم البيت الحجري، وخصوصاً أن البرنامج القطري لإعمار البلدة تأخّر في إقرار التعويضات للبيوت التراثية، وقرّر قبل أسابيع فقط احتساب كلفة ترميم المتر الواحد فيها بـ575 دولاراً». ويؤكد أصحاب البيوت، ما كرّروه مراراً، أن المقاولين أدّوا دوراً مهمّاً في تدمير البيوت التراثية. فكانوا يشجعونهم على هدمها (فهم يقبضون سعر متر المكعب من الجرف) ويشترون الحجر القديم بدولارين! ومن انساق في لعبتهم «باع» بيت أجداده بحفنة من المال.
ويُقر عبد الناصر سرور ، رئيس البلدية الحالي (في مهمته منذ خمسة أشهر)، «بأن فوضى عملية الإعمار بعد العدوان حوّلت الحارة القديمة إلى غابة إسمنت عشوائية، مردّها إلى غياب خطة إرشادية من التنظيم المدني، والمديرية العامة للآثار لحماية الطابع التراثي، والمواقع الأثرية المكتشفة حديثاً».

آخر الاكتشافات

في عيتا الشعب بقايا أجران ومدافن ومعاصر زيتون نُبشت في الحارة القديمة أثناء ورش الجرف والبناء. وآخر الاكتشافات سجّل قبل أيام، وذلك بالعثور على مغارة مدفنية ضمن أشغال في الساحة العامة، تبيّن أنها تعود إلى الفترة البيزنطية بحسب خبراء المديرية العامة للآثار. ويقول مسؤول المواقع الأثرية في المنطقة علي بدوي إن «المكتشفات تُظهر أن هناك بلدة تاريخية كانت قائمة مكان الحارة القديمة الحالية، تعود إلى الفترة الرومانية وما قبلها، مثل معظم بلدات جبل عامل». لكن ميزة عيتا تكمن في ازدهارها اقتصادياً وتجارياً في القرن السادس الميلادي، بسبب سهولها الواسعة، وموقعها المرتفع والمطلّ على شمال فلسطين والبلدات الساحلية. ويلفت بدوي إلى أنه لا إمكان للقيام بأعمال تنقيب واستكشافات لاستبيان تاريخ البلدة، بسبب ارتفاع كلفة التنقيبات، وكثرة المنازل السكنية المنتشرة فوق الآثار الدفينة. قرار إبقاء الآثار المكتشفة مفتوحة من دون أيّ لوحات تشرح أهميّتها، وتاريخها، يُبرز معاملتها كأنها «حجارة قديمة يُمنع المسّ بها»، فيما يمكن أن تكون المركز التاريخي للقرية. أما بالنسبة إلى كلفة تأهيل الآثار، ففي الإمكان طرح الموضوع من باب إعادة الإعمار، وتماماً كما رُصدت مبالغ لترميم البيوت التراثية، تُرصد مبالغ لتأهيل المواقع المكتشفة. فلو عُمل بهذا المبدأ لأصبحت عيتا الشعب «قدوة ومثلاً» يُحتذى به في قرى الجنوب.
يحصل ذلك فيما تُبرز إسرائيل كل حجر قديم، وتعطي الشروح وأصغر التفاصيل عن أي أثر مكتشف، من أجل إعطائها بعداً تاريخياً واقتصادياً وسياحياً. فلمَ القرى المتاخمة لها تدفن ماضيها وتاريخها وآثارها وتهملها؟ إذ يولّد ذلك انطباعاً بأنّ إسرائيل أقدم وأعرق.