إذا سمعت كلمة الفرح تتردّد على ألسنة الناس في حمص، فاعرف أن المقصود بها مقهى قديم جداً، يقصده روّاد من مختلف الطبقات والأعمار والاهتمامات، بعضهم يجلس على الطاولات الممتدة عند الرصيف الملاصق للمقهى. الفرح استضاف ثوّاراً وكتّاباً ومثقفين... وشبّاناً يحبّون تدخين النارجيلة
همام كدر
تبدو مدينة حمص السورية هادئة جداً، لدرجة أنها توصف بمدينة الموظف، فهي تنام الساعة العاشرة، لكنك ما إن تدخل «مقهى الفرح» أو «القهوة» كما يُطلق عليه الحماصنة، حتى تشعر بأنك دخلت إلى مدينة مصغرة مستقلة... بأوقات فرحها وإيقاع الحياة داخلها. مقهى الفرح الذي يعود تاريخ إنشائه إلى حوالى 100 عام في مركز المدينة، لا يحتاج إلا لبضع ثوان حتى تجد ما يسليك فيه، المكان ليس غريباً، يضم كل شرائح المجتمع من عمال «مياومين» (ليس لديهم عمل دائم)، إلى رجال الفكر والسياسة والمثقفين والتجار وماسحي الأحذية، وهذه ميزة «الفرح»، منذ نشوئه لم يكن مخصصاً لفئة من الناس، حتى في شكل بنائه خليط من الطراز التدمري والعثماني مبني بالحجر الأسود الذي تمتاز به أبنية حمص.
المقهى هو الأقدم في المدينة، بناه الحاج حسين قباقيبو وأخوه صادق، وكانا من الثوار الذين جاهدوا ضد الاحتلاليْن العثماني والفرنسي، وكانت عملية البناء كلها يدوياً، فلم تستخدم فيها أية آلة، وجُبل الطين بالزيت بدلاً من الماء لمزيد من المتانة، وبقي على شكله الأول حتى الآن، هذا ما أعطاه ميزة إضافية. من أشهر الحرفيين الذين بنوه «عبد الله خزام» صاحب لقب «معمرجي السلطان» الذي بنى قصر السلطان «عبد الحميد الدروبي»، وهو أحد المسيحيين الذين شاركوا في بناء جامع خالد بن الوليد.
للرصيف الذي يعد امتداداً لصالة المقهى الخارجية، وهي ميزة ليست عادة إلا في مقاهٍ أوروبية وقلما تكون بهذا الحجم في سوريا.
شُيّد المقهى على الطريقة التدمرية، فالعمود الحجري مفرغ من الداخل ومليء بالرصاص، تبلغ المساحة الداخلية للمقهى 1200 م2، ووزن حجر البناء الواحد 35 كغ وفي واجهة المقهى خمس قناطر.
يروي طلال طعمة، أحد أصحاب المقهى حالياً، أن «الفرح» كان يستقبل معظم معلمي الباطون واليد العاملة في المدينة من نجارين وحدادين، يأتون لحجز أمكنتهم هنا منذ الصباح ويأتي رب العمل ليختار بعضاً منهم لعمل يومين أو ثلاثة.
الأديب محمد غازي التدمري هو أحد أقدم رواد المقهى في حمص، فهو يجلس على إحدى الطاولات ولا يغيرها منذ ما لا يقل 40 عاماً، ويقول: «المنطقة هنا كانت تضم حوالى 30 مقهى منها الجزار، والنصر، والسقاي، والدروبي، والمنتدى، والدبلان، وفريال، أما مقهى الفرح فأقيم في ساحة الشهداء، وبعد زمن أقيمت بجانبه سينما الشرق، ولهذا عُرف لفترة تحت اسم «قهوة الشرق». يعود سبب تسمية المقهى بالفرح إلا غجرية حسناء تدعى «فرح»، كان الشبان والرجال يأتون إلى المقهى لرؤيتها، كان ذلك في بداية العشرينيات من القرن الماضي، كما مر في المقهى الحكواتي وكركوز وعيوظ، وقُدمت في المقهى العديد من المسرحيات، منها مسرحية فتح الشام لكاتب دمشقي لم يُحفظ اسمه، وقد عُرضت عام 1924، كان المقهى في عصره الذهبي آنذاك، حيث كان يغص بالمتفرجين الذين يدخلون في شخوص المسرحية، وينسون أنهم يتفرجون على قصة من وحي الخيال.
استضاف «مقهى الفرح» عدداً من الفرق الموسيقية العربية، منها فرقة عبد العزيز الشيخ من مصر، كما غنت في المقهى المطربة فتحية أحمد سنة 1939، وفي بداية الخمسينيات بدأ المقهى يأخذ الصبغة الثقافية، حيث كانت تنظم فيه أمسيات شعرية هجائية، يشارك فيها بعض شعراء المدينة، ومن أشهر أدباء المدينة الذين كانوا من رواد المقهى محيي الدين الدرويش، ورفيق فاخوري، ونصوح الفاخوري، إلى أن أتى الراديو والتلفزيون فأصبح رواد المقهى يتركون كل شيء لمتابعة مسلسلات دريد ونهاد.

خلية الثوار

كان المقهى خلية أساسيّة للثوّار والشخصيات السياسية المعارضة للاحتلال، ومن أبرز المجاهدين الذين جلسوا على طاولاته «نظير نشيواتي» و«عبد الكريم رجوب»، ومن الشخصيات السياسية رئيسا سوريا السابقان شكري القوتلي وهاشم الأتاسي، كما هناك على أحد الأعمدة صورة للجنرال شارل ديغول يستعرض فيها الحرس الفرنسي قرب المقهى، والعديد من الأدوات القديمة والتراثية التي كانت تستخدم سابقاً والمحفوظة في المقهى.
يستعيد أقدم عامل في المقهى بسام حمصة (أبو طلال)، الذي يعمل هنا منذ 35 عاماً، ذكرياته مع كل الشرائح الاجتماعية التي مرت عليه فيقول: «نشأت بيننا صداقات وكنا نسأل عن الزبائن الذين يغيبون للاطمئنان على أحوالها، «العالم» الآن تغير فقبل 35 سنة لم يكن يدخل المقهى من ليس على رأسه طربوش، وكان الشباب والصغار يخجلون من الدخول، كان أول زبون يأتينا بعد صلاة الصبح مباشرة في الخامسة يريد شرب قهوته، زوار الصباح كانوا في الغالب من أصحاب المهن والحوانيت، يشربون قهوتهم وينطلقون إلى عملهم، أما موظفو الدولة فكانوا يأتون بعد الظهر، كما كان المقهى يضم مكتباً لمختار جورة الشيّاح، اسم الحي هنا». يتسلى رواد «الفرح» الحاليين بلعب المنقلة البرسيس وأوراق الشدة وطاولة النرد والضامة والشطرنج والدومينو، ولجذب الشباب إلى المقهى تم الاشتراك بالمحطات الرياضية لنقل مباريات كرة القدم. امتاز مقهى الفرح بأنه ضم شرائح مختلفة من المجتمع، ولا يزال حتى الآن مقصداً للشباب والكبار، ومع دخول النارجيلة فقد أصبحت هي نجمة المقهى بدون منازع، بعدما مرت عليه فعاليات عدة فنية وتراثية وحتى سياسية.


جار الأسواق


الطريق إلى المقهى يدل نفسه، كما يقول الحماصنة، فما إن تدخل حمص من أي جهة حتى تزور أسواقها الأثرية، فالمقهى يقع في مركز المدينة تماماً إلى جانب مديرية الهاتف، في نهاية شارع القوتلي أحد أشهر الشوارع في حمص، وهو الذي يربط بين جنوب المدينة وشمالها، لا بد أن ترى الطاولات الموزعة على الرصيف والمطلة على الساعة الجديدة أحد أشهر معالم المدينة، وهي رغم أنها تعود لنحو أربعين عاماً، إلا أن الحماصنة لا يزالون يقولون عنها الساعة الجديدة، في الماضي كانت تدعى ساحة المقهى ساحة الشهداء، وحالياً هي في ساحة مركز المدينة بالقرب من مقر المحافظة، حيث تقام الاحتفالات الرسمية والشعبية.