أنسي الحاج حتّى النهاية
ليس هناك جواب. الأجوبة المُعطاة تغلق الأبواب، والأسئلة تحاكِم.
والإنسان يسترحم.
ربّما بعض الجواب أَن نبتسم، أن نُبَلْسِم، وأن نحنو. ليس هو جواب القوّة، ولكنه جواب قويّ.
الشفقة التي تحدّثنا عنها لا تصدر من فوق، بل تَشعّ من شقوق جدران الانغلاق وتَغْمر.
الجواب أمومة. وأبوّة أمومة. وأخوّة أمومة. وانحرافٌ أمومي.
من الأوّل الجواب هو الأمومة، وحين ينقطع حبل السرّة يهيم الجواب على وجهه ويخبط الكائنُ في الخضمّ.
قبل الجواب لم يكن سؤال، إذ لم يكن الكائن. المشكلة هي الخَلْق. مشكلة الخالق مع الخليقة ومشكلة الخليقة مع نفسها. الخَلْق افترى. ما الذي وسوس للخالق حتى يلعب؟ متعة تشكيل العدم؟ الضجر؟ أيّة اندفاعةٍ هي التي تبعث الحياة في الغياب فيتشكّل الوجود، ثم يأخذ في النموّ حتّى الموت؟ وهل صحيح أن الإنسان لم يكن معدّاً للموت بل للبقاء وأن خطيئته أوقعت به؟ ولماذا لا يُتَدارك هذا الخطأ؟ لأسبابٍ جماليّة؟ حتّى لا يختنق العالم بالأحياء؟ حتّى لا ينقطع الشوق والحلم؟ إذاً، هذه كلّها أهمّ من الديمومة؟ هل الموت أفضل من الديمومة؟ ألا يُحتمل الإنسان غير هذا الوقت العابر؟ هل الخالق لا يحتمل خليقته أم هو فعل الخلق محدود المفاعيل؟ أتتفوّق التحفة الأدبيّة والفكريّة والفنّية على خلق الخالق فتدوم في ذاتها لا في تناسلها فحسب، بينما يضمحلّ الإنسان في ذاته، ولا قيمة للقول إنه يستمر عبر ذريته فليس هو مَن يستمر بل النوع، كالشجر والنبات؟ وإذا كانت المشكلة في الأرض وصغر حجمها فلماذا لا يتمدّد البشر إلى الكواكب والمجرّات؟ وهل ينجح الخَلْق من عدم وتفشل الخليقة في التمدّد؟ وإذا كان كذلك، ومرّة أخرى، فلماذا تُعاقَب الخليقة، والعلّة هي في فعل الخلق غير المكتمل!؟ وإذا كانت العلّة في المخلوق، أليس المسؤول عنها هو الخالق؟ ألا يتحمّل الفنّان مسؤوليّة لحنه ولوحته وقصيدته؟
يبدأ السؤال ولا تنتهي الأجوبة، وإن جاءت بصيغة تساؤل.
يرهقنا السؤال ويستنفدنا. ونرهقه ونستنفده. ونُرْهق المسؤول، وقد لا يكون مسؤولاً. ويضرب الرأسُ الجدار. وماذا لو كان السؤال مغلوطاً والأجوبة نتاج سوء النيّة؟ ننطلق من مبدأ كون الحياة في الحضور هي الأجمل، وهي القاعدة... وماذا لو كان الغياب هو الأجمل، وهو بالذات لبّ الحضور؟ كنّا نظن أنه كلّما تقادم بنا السير في الحياة تعاظَمَ برهان وجودنا، ولكن ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟ ماذا لو كان الغياب كلّما تقدّم في ابتلاعنا، تقدَّم في كشف برهان حضورنا؟
اجتهاد آخر يدفعه الرفق بالذات.
على نقيض القوّة والتألُّه.
الانحلال لا في ماء الرغبة هذه المرّة، بل تحت سيل الألم. تحت وابل الخوف. في الكأس العملاقة الغامضة.
اخرجْ من وجودك إلى عدمك وأنت حيّ، وانظر.
انظر إلى الحجر الذي ينزاح عن الباب، وخَلْفه المجهول، المجهول الذي لم يكن في حياتك ما هو أشدّ حضوراً منه، فهل تصرخ عليه؟ هل تنظر إليه؟ هل تذهب إليه؟ هل يأتي إليك؟... أم يتفاداك في اللحظة القصوى كما سعيتَ إلى تفاديه يوم كنتَ حاكماً في وعيك، متحكّماً في جسدك، على قدم المساواة مع قَدَرك؟

حتّى النهاية ستتردّد الأسئلة، حاملة نظرات هذا المخلوق المشلَّع، العظيم، المظلوم،
شهيد الخَلْق.
حتّى النهاية، وفي سهول ما بعدها.

■ ■ ■

بَطَل
بطلي لا يقصد إلى اللذّة بل إلى الهرب، لا يقامر ليربح بل لينفق توتّره، ولا يسترسل في مباذله ليحقّق غزوة بل ليتخلّص من الرقابة على نفسه. بطلي هارب لا ليلتقي ذاته ويفهمها بل لينسى ذاته ويطلّ على مَشاهد تُشبع نهمه إلى طي الصفحات، إلى تكرار اللحظات واجتيازها، إلى امتحان القدرة على استهلاك الذات، جسداً وروحاً، فرداً وأُمّة، صدقاً وكذباً، وداعةً وتوحُّشاً، امتحاناً متواصلاً يريد أن يصل إلى خلق الندم، الندم المؤرّق الهائل، المفترس، الندم فاعلُ التغيير، ولكن ليس ندم البطل على أعماله، بل ندم العناصر التي كوّنته على إجرامها في التقصير معه،
ندم اللحم الذي كوّن لحمه على توريثه ما وَرَّثه،
ندم القادر على التدخّل لأنه لم يتدخّل،
ندم المتفرّج الساخر والمشاهد البليد،
نَدَمُ كونٍ بأسره على كونه، بَدَل أن يوجّه طاقةَ بطلي نحو الاستكانة، سلَّط عليها جداول الجمر، وبَدَل أن يجعل تَهتّك بطلي يدمّره باكراً وينهيه، تركه يعود من سقوطه كلّ مرّة أكثر جوعاً إلى استهلاك جديد.
وما ظنَّه حلقات من النسيان يَغْلب بها ما لا قدرة له على مواجهته، تبيّن أنها دروب ثانية تفضي إلى المواجهة.

■ ■ ■

صدّقني أنا
لا يضيف الإنسان إلى رصيده غير العمر. هوان يزايد على هوان. السكوت عنه ضيق والشكوى مذَلّة. ولا بهجة إلا بين باب وباب. لكَ من الزمن أَشعّةُ أيّام والباقي ظلام. ولا يسهل الاستعطاء إلّا على المُرائي، فالمُخْلِص تتجاذبه كراماته متصايحة بعضها على بعض. ولا تحسبْني أنا. لستُ أنا. مَن تَراه إنما هو يدٌ لنَفْح سواه.
أنا أداة ساهية لقوى شرّيرة. هكذا لمَ أشعر بحَرَج مع ضحاياي، فقد حَمَتْني الغفلة. وحين بدأتُ أدرك أذاي كانت أركان الشرّ قد بدأت تُخْلي داري. لا تصدّق الأحبّاء، صدّقني أنا العارف بما جرى. لم أرحم ولم أخجل، اندفعتُ كنسرٍ يغطّ ويطير فوق زَبَد البحر وفي فمه الغنائم لا تعرف أتفرح لمجدِ أن يحظى بها نسر، أم تبكي موتها.

■ ■ ■

أنت وهو
إعطاؤه ثقة بنفسه سيطلق فيه شياطين قوّة لن تعرف حدوداً، قوّة كان يكبتها مركَّبُ النقص، وما أحسنه من مركّب يلجم التهافت والصفاقة ويؤخّر تفتُّحَ الأزهار الزائفة.
إعطاؤكِ إيّاه ثقة بنفسه، وهذا لديكِ انطلاقة سماح وعطف، سيُفْرج عنده عن الشهوة المعتقلة، ولن يقف عند موانع. وأنتِ التي ما كان ببالها الانجراف، سوف تنجرفين، وأنتِ التي كانت تنظر إليه من رفعة مشاعرها الأموميّة، ستستيقظ فيكِ حِمَمُ الهوى جرّاء اندفاعته العمياء، وإذا مانعتِ فلن تؤدّي ممانعتكِ إلّا إلى تأجيج شهواتكما.


■ ■ ■

الملهى البلدي
يقول كارل كراوس إن سرّ المحرّض هو في ظهوره بمثل غباء جمهوره حتّى يحسب هذا الجمهور أنه بمثل ذكاء المحرّض. هذا الآن موسم التحريض الانتخابي في لبنان، وهو من الملاهي البلديّة المشوّقة. أما معادلة كراوس فلا تنطبق إلّا على بضعة زعماء، في حين تندرج الأكثريّة الساحقة من المرشحين والخطباء في خانةِ الأدنى مستوى عقليّاً من أي جمهور كان.
بين مآثر هذه الأكثريّة نجاحها في تجريد الكلام من المعنى. وبين ملامح الهزل في الطاحونة الانتخابية أن يبدأ المرشّح بعبارة ولا يعرف كيف يخرج منها. فقد بلغ الانحدار حدّ الفشل في حفظ الكليشيهات. وحين لا يحسن المرء الكلام الببغائي بعد سقوطه في امتحان الكلام العفوي، فماذا يبقى؟ يبقى البعد الإقليمي ـــــ الدولي الكامن وراء المعركة، وهو ما لا سلطة للمرشحين عليه. كما يبقى الاستعراض الجسدي، وهو ما يشاهده المضطر إلى التجوّل في الأحياء وبين المناطق، حيث اكتفى مرشحون بعرض ملابسهم وابتساماتهم على صور اللافتات العملاقة كأنهم ماركات ويسكي أو ببسي. وهناك مَن يريدون إنقاذ ما لا يحتاج إلى إنقاذ. فضلاً عن المتظارفين، وهم طبقة طامحة إلى تجديد السماجة.
كان بعض المنى أن تنطوي المعركة على هزل يُضحك بلا ادّعاء، إلّا أن المضحك اقتصر على البليّة، وشرّها انتفاءُ الحدود بين السخيف والمعقول. صار الهزل هو فضيحة المهرّج لا نجاحه، هو البكاء يأساً من فراغ المسرح رغم احتشاده بالممثّلين.
الناس ناضجون دوماً لمَن يجرفهم، حتى لو كانوا في قاع المنحدر، شرط لا أن يكون الخطيب أذكى منهم بل أن يلامس كلامه همومهم الحقيقيّة ويجيب عنها بذكاء ويقترح حلولاً، ولو كانت ديماغوجيّة. الواقع يُلزمنا القول إن السياسيين والخطباء، خارج إطار العلاقة الطائفية، لا تربطهم بالجمهور وشائج. صحيح أننا لم نكن لنتوقَّع معجزات من هذه المعركة، لكنّنا نفاجأ، رغم مناعتنا المكتسبة، بهذا الحجم الهائل من التخلُّف السياسي والتراجع الأخلاقي والحماقة العامة.
شعب هكذا مرشّحوه لماذا لا يُدفّعهم؟ شعب بهذه السذاجة لماذا لا يخدعه قادته؟ لعلّ المعاهدة الوحيدة الثابتة عبر النزاعات السياسيّة اللبنانيّة، بالإضافة إلى العشائريّة والطائفيّة، هي الفساد. وما ينافس الفساد ليس النزاهة، على كونها متوافرة عند البعض، بل الترهيب. وقد يجتمعان.
في 7 حزيران سيذهب اللبنانيّون إلى موعد آخر مع سوء التفاهم.