إيلي شلهوب يشهد العراق منذ مدّة، وتحديداً منذ انتخابات البلديات في كانون الثاني الماضي، نقاشاً صحياً من النوع الذي يمهّد لإقامة تحالفات عابرة للطوائف، ولمراجعة طبيعة النظام السياسي الواجب اعتماده بما يضمن وحدة هذا البلد وتوفير آليات تمنع أزمات الحكم فيه. نقاش المحرّك الأساس باتجاهه هو رئيس الوزراء العراقي الحالي. نعم، إنّه نوري المالكي نفسه، الذي لا بد من الاعتراف هنا بأنه نجح، ببراعة متناهية، في اللعب على التناقضات وعلى مصالح الأطراف المعنية، بما أدى إلى تعزيز الحكومة المركزية (على حساب غلاة دعاة الفدرلة من أكراد وشيعة) واستعادتها لهيبتها. لعلّ تصدّره نتائج انتخابات البلديات أبرز دليل على نجاحه هذا، الذي يسعى على ما يبدو إلى استغلاله في محاولة لفرض جدول أعمال سياسي، بما يتوقع أن يؤدي خلال أشهر، إن لم يكن أسابيع، إلى إعادة بناء التحالفات على أسس وطنية، تمهيداً للانتخابات البرلمانية أوائل العام المقبل. إضافةً إلى محاولته إدخال تعديلات جوهرية على النظام السياسي، تحت عنوان استبدال «الديموقراطية التوافقية» المعمول بها حالياً، بنظام رئاسي على الطريقة الأميركية.
يساعده في ذلك بلا شك تغيّر الظروف والمعطيات الخاصة بالعراق: قرار الانسحاب الأميركي اتخذ على المستوى الاستراتيجي (وإن كان تطبيقه وجدوله الزمني مرتبطين بجنرالات الميدان)، في خطوة أدت إلى إطلاق العنان للتفكير في اليوم الذي يلي خروج المحتل. الانقلاب الذي نفّذته سلطات الاحتلال لجهة التقرّب من السنّة وإعادة الاعتبار إليهم عبر تأطيرهم في صحوات مسلحة أعادت إليهم موقعهم في المعادلة السياسية. عودة العرب إلى بغداد (باستثناء السعودية) لا شك أكسبت حكّامها مشروعية افتقدوها مذ بلغوا السلطة على الدبابات الأميركية. التوافق الإقليمي على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق، الذي تحوّل بعد سقوط صدام إلى الحلقة الأضعف في محيطه (تركيا التي تخشى قيام دولة كردية انفتحت على كردستان العراقية، والسعودية التي تخشى قيام دولة شيعية على حدودها الشمالية، وسوريا التي تخشى تداعيات تقسيم بلاد الرافدين على وحدتها القومية، وحتى إيران التي يبدو أنها تفضل عراقاً موحداً لها اليد الطولى فيه، على دويلات تتناحر على حدودها الغربية). النزعة الحوارية التي اعتمدها باراك أوباما منذ وصوله إلى السلطة، وتحديداً حيال إيران وسوريا مع ما يعنيه ذلك من تهدئة بين الأطراف الرئيسية الثلاثة المعنية بالملف العراقي، مقاومة واحتلالاً...
صحيح أن طبيعة شخصية المالكي ونزعته إلى إضعاف الخصوم والتفرد بالسلطة، التي أكسبته صفة «صدام الجديد» في وسائل الإعلام الغربية، أدت دوراً أساسياً في ما يجري؛ رفع شعار «العروبة» ضد الأكراد للحد من نفوذهم السياسي في بغداد، وتقرّب من عشائر الجنوب لإضعاف التيار الصدري، ورفع شعار محاربة الفساد لتصفية منافسيه من «المجلس الأعلى»، ومنع انتخاب بديل لمحمود المشهداني لأشهر، أكد خلالها قدرته على العرقلة داخل مجلس النواب. كما منع دمج الصحوات الموالية للحزب الإسلامي وجبهة التوافق عموماً في أجهزة الدولة، وتقرّب من تلك المنشقّة عنهما، وخاصة بعدما حلّت هذه الأخيرة ثانية في الانتخابات الأخيرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى موقفه من المصالحة الوطنية، وتحديداً مع حزب البعث المنحل، الذي وجّه إليه إشارات متناقضة انتهت إلى «لا مصالحة».
لكن الأكيد أن لما يجري أسباباً بنيوية تتجاوز الشخصانية إلى محاولة المجتمع العراقي استعادة هويته الوطنية، على ما أظهرته صناديق الاقتراع، التي وجّهت ضربة قاصمة إلى الأحزاب التي حافظت على خطابها الطائفي (مثل «المجلس الأعلى» الذي حلّ ثالثاً، والحزب الإسلامي الذي صنّف رابعاً). وكأنها محاولة أولى لمغادرة مشهد غير أليف عرفه العراق على مدى السنوات الست الماضية، وتحديداً منذ أن أجهز بول بريمر على المؤسسات الوطنية العراقية، وفي مقدمتها الجيش، دافعاً العراقيين إلى العودة إلى حلقة الانتماء الأولى: العشيرة والطائفة. وحدات اجتماعية عمل المحتل على تعزيز وجودها، بإقامته تحالفات مذهبية، فرزت العراقيين على هذا الأساس. وكان ما كان من اقتتال وتطهير طائفي، أدّى المحتل دوراً أساسياً فيهما. علماً بأن نظام صدام حسين، ذاك النموذج غير الحضاري، لم يعرف الطائفية يوماً، لا في خطابه الأيديولوجي ولا على مستوى منظومته القانونية، ولا حتى على مستوى الجرائم التي مارسها في حق شعبه، التي وزعها بـ«العدل والإنصاف» على الجميع.
بهذا المعنى، يبدو أن الاصطفاف المقبل في العراق سيكون على شاكلة 8 و14 آذار اللبنانيين. تكتّلان يحملان برنامجين سياسيين متناقضين لخوض انتخابات سيعيد البرلمان المنبثق عنها صياغة الدستور ويحسم الملفات العالقة. الأول يقوده المالكي، ويرجّح أن يضم التيار الصدري والصحوات المتمردة على الكتل السنية الممثلة حالياً في السلطة، ومعها التكتلات اليسارية والقومية والعلمانية، تحت شعار حكومة مركزية قوية في نظام اتحادي. أما الثاني، فيضم، على الأرجح، «المجلس الأعلى» والحزبين الكرديين وأحزاب السنّة وصحواتها ويرفع شعار «أقاليم قوية في نظام أقرب إلى الكونفدرالية»، مع تمسكه بـ«الديموقراطية التوافقية».
خلاصة التجربة اللبنانية تبدو مهمة في هذا الإطار: مجموعة طوائف لا تكوّن وطناً. والتوافق في ما بينها يحفظ السلم الأهلي، لكنه لا يبني دولة. وأي إخلال في التوازن الديموغرافي أو موازين القوى الإقليمية يعني تهديداً بحرب أهلية، وخاصة في ظل عدم وجود اتفاق على محددات الهوية والانتماء الوطنيين.
العبرة لمن يعتبر.