strong>حسن شامي*ثمّة شبح، على ما يبدو، يحوم منذ سنوات حول العالم العربي، ويتهدّد مصائره التاريخية والسياسية، وليس أقل من ذلك. ونحسب أن القارئ قد فطن على الفور إلى أن صفة الشبح المشار إليه ليس سوى الاسم الآخر لإيران الطامحة إلى تثبيت موقعها دولةً وطنية وقوةً إقليمية في آن. وهذه الشبحية الإيرانية الحائمة أو المحوّمة حول كائن متحقق وماثل، سياسياً وتاريخياً وثقافياً اسمه العالم العربي، ألهبت حناجر كثيرة، وأقلاماً أيضاً، خلال السنتين الأخيرتين خصوصاً. لقد تدفّق بالفعل، ليس بدون تقطّع، سيل من التصريحات والتعليقات والأدبيات الدائرة على خطورة التهديد الشبحي هذا. وغلب على هذه الأدبيات النفخ والانتفاخ البلاغيّان في صورة الشبح وبها. وثمّة ما يرجّح في الظن ألا يكون هذا النفخ البلاغي مجرد تعبير خطابي محموم استدعته الحاجة الملحّة للتصدي للخطر الشبحي الطارئ. فهو أيضاً، على الأرجح، من مستلزمات أدبيات «عروبية» تخاطب وتستنهض ما هو قبلي وثأري وتبسيطي في المخيّلة العربية، التاريخية والثقافية، التي يُفترض لها قدر أكبر من التركيب، ومن الالتباس أيضاً. وهذه طريقة للقول إن الأمر يتعلق برواية معينة، وبخطاب محدد عن الهوية العربية المفترضة، وليست بصفة جوهرية تلازم العروبة تلازماً عضوياً بحيث تكون البلاغة القبلية القائمة على المفاخرة والمعاظمة والمقارعة هي اللغة الوحيدة للعروبة، على ما يحسب هواة الجذرية والجوهرانية وزاعمو تأصيل ما لا يحتاج أصلاً إلى أصل.
على أننا، قبل الخوض في بعض وجوه العروبة، سنبقى مؤقتاً في صفة الشبح ومزايداتها ومشتقاتها. ذلك أن الشبح، في اللغة، بحسب ابن منظور في لسان العرب، هو ما يشخّص من الإنسان. فالشبح هو الشخص نفسه، وهو غير الطيف. ويقال عن فلان شبحت يداه أي شخصتا وامتدتا. أما الفعل المزيد الأول المتولّد من مضاعفة الحرف الثاني وشدّه أو تشديده، أي شبّح، فهو يمنحنا اسم مصدر عزيز على قلوب اللبنانيين، وكثير التداول في لغتهم المحكية: التشبيح. والتشبيح لغةً، بحسب ابن منظور دائماً، هو التعريض، أي جعل الشيء أو تصويره عريضاً، بل حتى منفوخاً ومعظّماً. وهذا بيت القصيد، قصيدنا ومقصدنا. فالتصريحات الصادرة عن جهات عربية عدة، رسمية وغير رسمية، والدائرة على تشخيص الخطر الإيراني، وتعظيمه بطبيعة الحال، تكاد تستعصي على الحصر والإحصاء. صحيح أن تصوير التحويمات الإيرانية، لم يلزم، عربياً، وتيرة واحدة، بل عرف ارتفاعاً وهبوطاً، وحدّة في النبرة وخفوتاً، ولم يكن ذلك عديم الصلة بإيقاع التجاذبات والمفاوضات الجانبية وغير المباشرة أو من تحت الطاولة، بين إيران والإدارة الأميركية، وخصوصاً خلال ولايتي جورج بوش الابن. ومع أن اعتداءات 11 أيلول تسمح بتشخيص البيئات الاجتماعية والجغرافية للأصولية السلفية، فإن إدارة جورج بوش، المزدانة بعبقرية المحافظين الجدد وفقاعاتهم الأيديولوجية والاستراتيجية، أعلنت على الملأ العالمي، بنبرة رسولية قيامية لائحة بلدان أخرى لا علاقة لها باعتداءات 11 أيلول، أطلق عليها اسم «محور الشرّ» (وهي إيران والعراق وكوريا الشمالية) فيما أدرجت دول أخرى في عداد «الدول المارقة». ثم حصلت حرب أفغانستان بتغطية شرعية دولية، واجتياح العراق بدون مثل هذه الشرعية. وجغرافية الحربين تؤذّن بإحكام الحصار على إيران وتطويقها، ما يمكن أي عاقل أن يتوقع حياله موقفاً أو سلوكاً إيرانياً لا يقوم على الاستقبال بالورود، ولا على توزيع الحلوى ابتهاجاً. البقية نعرفها لأننا لا نزال فيها، عراقياً وأفغانياً وباكستانياً، بدون أن تقتصر تبعات الرؤيا و«البشارة» البوشية الكونية على مجتمعات هذه البلدان وأقاليمها. واحتاج هذا «الترانسفير» المغشوش إلى مقادير فلكية من الكذب والتلفيق، على ما يعلم كثيرون اليوم.
لجأت الإدارة البوشية إذاً إلى تعظيم الخطر العالمي، والإقليمي استطراداً، لنظم وبلدان غير ضالعة في صدمة 11 أيلول. وهذا ضرب من التعريض، أي «التشبيح» ما دمنا في الشبحية. ولما كانت جاذبية القوة الأعظم في العالم، تتمتع، مادياً ورمزياً، بقوّة تأثير واستيعاب تكاد تكون فيزيائية، جاز الظن بإمكان تحويل هذا التشبيح، لدى أنظمة ونخب ارتأت أن تسلس قيادها، إلى برنامج عمل، إن لم يكن إلى عقيدة. ونحن ندفع اليوم ثمن هذا «التشبيح». يمكننا، على أي حال، أن نضع في هذا السياق أدبيات التعريض «العربية» للخطر الإيراني. وإليكم عيّنة عن الرؤية العروبية الجديدة ـــــ القديمة:
ففي الكلمة التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية للقمة العربية المنعقدة في الكويت، أعرب الرئيس المصري حسني مبارك عن أسفه لأن «يعمل البعض على تقسيم العرب بين دول الاعتدال ودول الممانعة، كأننا لا نتعلم من أخطاء الماضي ودروس التاريخ القريب». المقصود هنا هو، على الأرجح، الإدارة الأميركية وربما أطراف أخرى. وأعرب الرئيس مبارك كذلك عن أسفه «لأن نسمح باستغلال مأساة غزة لاختراق عالمنا العربي بقوى من خارجه، تتطلع للهيمنة وبسط النفوذ وتتاجر بأرواح الفلسطينيين ودمائهم». المقصود هنا هو بالتأكيد إيران. وتولّى زعيم تيار «المستقبل» اللبناني وكتلته النيابية النائب سعد الحريري الإفصاح عمّا غمض في تصريحات بعض القادة العرب، وذلك قبل أن يدلي وزير الخارجية المصري بمواقف تجعل التلميح تصريحاً. فقد رأى الحريري خلال مأدبة عشاء أقامها على شرف منسّقي تيار «المستقبل» في الاغتراب، أن «الجميع كان يراقب الانقسام العربي الحاد في قمة الكويت، وسبب هذا الانقسام هو إيران». ورأى في معرض امتداحه لنجاح المبادرة السعودية التصالحية أن «وحدة الصف العربي هي التي تمنع التدخل الإيراني في الشأن اللبناني والشؤون العربية». ويندرج تصريح النائب الحريري في إطار مسرحة إعلامية وسجالية للاصطفافات اللبنانية الداخلية والإقليمية والدولية، والمسرحة هذه هي ضرب من اختبار وتجريب تعبيرات وصور تصلح للتجهيز والتعليب والاستعمال، ويكاد هذا الاختبار أن يكون أكثر من عادة لبنانية، إنه قدر. وقد اختبرنا بالفعل، في لحظات احتدام السجال اللبناني، ضروباً من الكلام الدائر على تشخيص الخطر الإيراني وتعريضه وضرورة التصدي له. فتحاورت، وأحياناً تلاصقت عبارات تنضح بأحكام قيميّة جاهزة، بل حتى عنصرية، تتناول كيفما اتفق أطماع الفرس ـــــ المجوس ـــــ الساسانيين. وبعض أصحاب هذا الدوران البلاغي يساريون، سابقون أو منقّحون ومعدّلون. ومع أن معظم مستعرضي الخطر الشبحي الإيراني والنافخين في صورته، هم من دعاة «لبنان أولاً... وأخيراً» إلى حد تمثّل الكيان الوطني اللبناني وتمثيله في صورة جزيرة أو ملاذ واقعين في القمر، فإنهم اكتشفوا لأنفسهم ولبلدهم هوية عروبية مناهضة أصلاً وفصلاً، من فوق التاريخ والجغرافيا السياسية ومن تحتهما، للطموح الإيراني ـــــ الفارسي ـــــ المجوسي ـــــ الساساني.
هناك إذاً عالم عربي يجري اختراقه، وهناك صف عربي يجب أن يتوحّد ضد هذا الاختراق، ويبدو هذا بديهياً بحيث لا يحتاج العروبيون السجاليون إلى تعريف قوام هذه العروبة ومبدئها ومادتها، فضلاً عن شروط تحقيق صفتها السياسية. وهذه كلها أمور تستحق التمحيص، بطريقة غير بعثية وغير صوفية، لأنها محل بناء وعمل يتعهد التباينات والخصوصيات وجاذبيات التاريخ والاجتماع، في إطار عقلاني ديموقراطي. فلنقل إنّ العروبة، شأنها شأن كل مقولة كبرى وجامعة، مثل الأمة والوطن والإسلام والحداثة... إنما هي تعبّر عن تأويل، أو أيديولوجية، تتحدّد قيمتها بطبيعة القوى التي تحملها. فالفكرة العربية نشأت في ظل فوران، أو غليان فكري صاحب تعاظم الفكرة القومية في ولايات السلطنة العثمانية. وكان لانتشار النزعة القومية الطورانية في أوساط النخب التركية ـــــ العثمانية الحديثة دور في إحداث رد فعل لدى نخب عربية كان موقعها قد تعزز بفضل «التنظيمات» العثمانية، فقام أفراد منها بصياغات لفكرة عربية جامعة لم تكن خلواً من الارتجال ومن الرومانسية ومن إحياء الأنساب القبلية. وقد استقبلت الإدارة البريطانية هذه الفكرة التي راودت بطريقة حالمة وإكزوتيكية بعض الغربيين المولعين بالصحارى والخيول وبساطة الحياة البدوية (مثل البريطاني ويلفريد بلنط وزوجته آسا)، وعملت على تجهيزها وتعليبها واستعمالها ومن ثم التلاعب بها وتجويفها بحيث تبقى ضرباً من الفولكلور الثقافي واللغوي. الناصرية أعطت مضموناً آخر للعروبة، بالاستناد إلى التاريخ الاجتماعي والسياسي لبلد قليل الالتفات إلى الأنساب القبلية. وقد حُطِّم المشروع الناصري وعروبته، وإن كان هذا المشروع يتحمل قدراً من المسؤولية عن مآله وتفويته لفرصة تاريخية للنهضة العربية. ونحن اليوم أقرب إلى عروبة النسب والعرق والقبيلة، أي إلى العروبة المغدورة بعد تجهيزها واستعمالها قبيل الحرب الأولى وأثناءها وبعدها. وإذا كان من الشرعي جداً أن يشعر عرب كثيرون بالارتباك حيال تزايد القوة الإيرانية، فإن الجواب على ذلك لا يأمن في مواصلة «استراتيجية النعامة» التي تكافئ دفن رأسها في الرمل بالصياح ولعن الرمل. هناك ملفات حقيقية تختبر العروبة السياسية وعملها، وطنياً قطرياً وإقليمياً، ويمكن الالتقاء في بعض وجوهها مع القوة الإيرانية، فهذا أفضل من التعريض والتشبيح البلاغيين. أما إذا سارت الأمور وفق التصورات الأميركية السابقة، والليكودية الإسرائيلية حالياً، فإنّ من الجائز القول إن «لورنس العرب» لن يكون بريطانياً، هذه المرة. ولن أقول لكم ما هي جنسيته.
* كاتب لبناني مقيم في باريس