كمال خلف الطويل*لبنان مرصد العرب ومختبرهم ومنبرهم ومتنفسهم وهواهم، يصبح لا مندوحة لعربي من تأمل مشهده، والأمل في تشكّله بما يوافق قضايا الأمة وفي الصدارة منها الأمن القومي العربي. والحال أن اصطفاف القوى اللبنانية هو أجلى ما يكون في صيدا التي منها انبثق مشروع آل سعود، غداة الاجتياح الإسرائيلي عام 82، للسيطرة على لبنان، بالتشارك المضطر مع سوريا، توطئة للتسلل عبر بوابته إلى العمق السوري فتحاً من الداخل وعبر تجنيد جيب متسع الحجم من حشايا نظامه ليوم مقبل هو اليوم التالي لغياب مؤسسه وبانيه... حافظ أسد.
في صيدا تلك يواجه مشروع آل سعود اختبار النماء أو الانكفاء. وإذا كان لاختبار أن يوازي معركة صيدا الانتخابية قيمة تاريخية فهو انتخاب الشيخ حسن خالد مفتياً للبنان أواخر 66، مرشحاً لعبد الناصر مقابل الشيخ شفيق يموت ممثلاً لفيصل آل سعود... من جهة، و/ أو انتخابات ربيع 68 البرلمانية التي تقابل فيها الحلف الثلاثي، مدعوماً بتكتل الوسط، الموالي لواشنطن مع النهج الشهابي الصديق لعبد الناصر... من جهة معاكسة. والحال أن الشام كان باستمرار محط رجاء آل سعود سعياً لبسط هيمنتهم الإقليمية مرتكزاً رئيساً لواشنطن... بل لبنان بالذات هو أول عنقوده سواء كمنصة انطلاق نحو عمقه، الشام، أو طلباً لوسائل الدعة والملذات، أو وطناً قومياً ثانياً لهم إن حلّ ظرف أغبر يجليهم عن جزيرة العرب.
يكفي استذكار صائب سلام وحسين العويني لندرك كم مبكراً سعى آل سعود للمشاركة في تفصيل السياسة في لبنان على مقاساتهم الخاصة والعامة.
وفي أيامنا هذه ينفق آل سعود بلا حساب على انتخابات لبنان، محاولين شد حيل الحريري الابن في بيروت والبقاع، وتجميع أعوانهم في طرابلس وعكار على خانة واحدة... لكنهم يخوضون، بالرمز، ما يعتبرونه آخر معاركهم وأشرسها مع... جمال عبد الناصر.
والحاصل أنهم ما خافوا ولا كرهوا ولا حاربوا أحداً في مماته أكثر من حياته إلا هذا الرجل، فلطالما أرّقهم شبحه من وقته ولآخر زمانهم البادي الأفول.
من هنا زيارات عبد العزيز خوجة المتكررة للبنان واعتماده فؤاد السنيورة مرشحاً في صيدا، وخرق الاتفاق في طرابلس، وقسرُ الإخوان المسلمين على التصويت للسنيورة «ومستقبله الحريري».
هم يصارعون سوريا وإيران على لبنان الحاضر والمستقبل، لكنهم في العمق ينازلون عبد الناصر لا على لبنان وحده بل على الوطن العربي برمته، ومن محطة صيدا بالذات.
والثابت أن الصراع في لبنان هو على بوصلة اثنين من أعمدته: المسيحيين والمسلمين السنّة.
الأُوَل تنزاح بتسارع عن بصرهم وبصيرتهم غشاوات البطاركة عريضة والمعوشي وصفير والمطران مبارك، و«الزعماء» العائليين وجعجعهم، بواقع ما جنوه من حصاد مر جرّاء مسارات هذا الصنف، فيما تنتظر السنّة ضرورة، ولا أقول حتمية، عودة الوعي بالذات والمحيط وإبطال استلاب هويتهم لمصلحة مشروع آل سعود ومرجعيتهم الأطلسية.
وكما انطلق مشروع آل سعود في مدّه الأخير والطويل من صيدا قبل زهاء عقود ثلاثة، فهو ملاقٍ مصيراً غير مأمون فيها... ومنها.
ستعزّز ذاك المصير اختراقات قومية في طرابلس ودائرة بيروت الثالثة تفتح الدرب واسعاً أمام اجتثاث هذا المشروع من لبنان برمته مع الدورة الانتخابية التالية.
* كاتب عربي