اجتمع في الجامعة الأميركية 35 باحثاً ناقشوا «تهميش الشباب في الشرق الأدنى» في غياب هؤلاء. مفارقة تظل ذات مغزى، مهما اختلفت تبريرات الغياب من موسم امتحانات إلى قلة إعلان المؤتمر
خليل عيسى
يتوقع الداخل إلى القاعة التي تحتضن «مؤتمر تهميش واستنهاض الشباب في الشرق الأدنى»، الذي عقد خلال اليومين الماضيين في مبنى الوست هول، في الجامعة الأميركية، أنّ يجد المكان مكتظّاً بالمعنيين الأوائل: الشباب أنفسهم. إلّا أن ظنه سرعان ما يخيب، وتفلت منه ابتسامة يعجز عن كبتها حين يكتشف أن الشباب يهمَّش حتى في إطار مؤتمر عُقد للدفاع عن مصالحه ضد التهميش.
لا شباب في المؤتمر الشبابي الذي ضم نحو 35 باحثاً، من بينهم مدير مركز الأبحاث السلوكية، البروفّسور سمير خلف، ومدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة رامي خوري، والأساتذة بشار حيدر وفواز طرابلسي وكريستن شايد وروزان خلف وغسان الموسوي ومنى حرب، من الجامعة أيضاً. فالطلاب غابوا جميعاً: لا لأنهم منهمكون في الدرس بسبب اقتراب موسم الامتحانات وحسب، بل لأن الجامعة التي اتخذت المبادرة في تنظيم المؤتمر لم تعلنه أمام طلابها، إذ خلت جدران الجامعة من أي ملصق يدعو إليه.
اندرجت المحاضرات تحت أربعة مفاصل رئيسية هي: الشباب كطبقة اجتماعية قائمة بذاتها، الهويّة في أوقات القلق والخطر، عنف الشوارع، الشباب والعمل التطوعي في المجتمع المدني الموسيقى والثقافة الإلكترونية، ونظرة الشباب إلى ذاته.
كانت محاضرة بروفّسور الانثروبولوجيا المقارنة ونظرية علم الاجتماع في جامعة ملبورن، غسان الحاج، محطة منتظرة في المؤتمر، إذ إن الحاج يعدّ مرجعاً في حقل الانتروبولوجيا النظرية ودراسة تعدّد الثقافات، وهو صاحب كتاب مشهور في ذلك الصدد لم يترجم إلى العربية حتى الآن، عنوانه «أمّة بيضاء: خيالات الهيمنة البيضاء في مجتمع متعدّد الثقافات». أثار بحث الحاج عن «الليبيدو (مصطلح فرويدي، الشهوة الجنسية) المقارنة واللبنانيون العائدون من الغرب» اهتماماً ملحوظاً، إذ استخدم الحاج الأدوات النظرية لعالم النفس الفرنسي لاكان، ليفسّر من خلالها «شعور اللّذة بخرق القوانين الذي يشعر به اللبنانيون في بلدهم بعد عودتهم من الغرب الذي هاجروا إليه». فقد رأى الحاج أنّ اللبناني يعود من فضاء غربي مشبّع بالقوانين إلى فضاء لا تسيطر عليه قوانين الدولة ليقوم بعملية خرق للقانون تمنحه لذة (Jouissance Libidinal).
وقد أثارت الدراسة نقاشات عديدة بشأن القدرة التعميمية لهذا التفسير على المجتمع اللبناني. حيث شرحت طالبة الدكتوراه في جامعة نورث كارولينا، إيلينا يحيى أنّ «عيّنة اللبنانيين الذين درسَهم الحاج لا تمثّل سوى جزء بسيط من الطبقة الوسطى العليا في لبنان، ما لا يكفي لجعلها أداة نظرية كاملة».
انقسمت معظم الأبحاث التي قدّمت في المؤتمر إلى منهجيّتين. الطريقة الأولى وهي النظرية المهيمنة، ارتكزت على تحليل الشباب، والشباب اللبناني كان نموذجاً في ذلك، كتجمّع طوائف فقط من دون الالتفات إلى التحليل الطبقي. أما الطريقة الثانية، فقد انطلقت من نظرة تحليلية كان التحليل الاجتماعي والطبقي عصبها. مثّل الخطّ الأول سمير خلف ومحاضرون عدة مثل كريستيان جاهر، الأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية وإلينور ـــــ براي كولينز، زميلته من جامعة تورونتو، التي رأت «أنّ الشباب اللبناني حاول تحديث الطائفية من خلال ثورة الأرز»، فيما تناول جاهر الشبكات الشبابية التي نسجها الشباب في ثورة الأرز بين مختلف الأحزاب، التي تعبّر عن «إرادة انتفاضة الاستقلال»، ما دفع بعض الحاضرين إلى القول إنّ «بعض المداخلات تشبه البيانات السياسية أكثر مما تشبه الأبحاث الأكاديمية». إلّا أن تلك «البيانات السياسية» قدّمت إلى البروفّسور خلف البرهان الساطع على صحة موقفه، إذ إنه عقّب على محاضرة براي قائلاً «ليت البروفّسور طرابلسي كان موجوداً ليسمع هذه المداخلات»، شارحاً أنه «كثيراً ما واجهت المشاكل مع علماء الاجتماع اليساريين الذين يصرّون على التحليل الطبقي وعلى عدم الاعتراف بأنّ لبنان مؤلّف من طوائف لا طبقات، فلبنان هو تجمّع للعائلات الروحية أولاً وأخيراً».
أما الخط الثاني، فقد مثّله الصحافي والباحث محمّد أبو سمرا، الصحافي فيديل سبيتي والبروفّسور فوّاز طرابلسي. حيث قدّم أبو سمرا بحثاً مقارناً عن شباب منطقة باب التبّانة قبل مقتل خليل عكّاوي وبعده وتحوّل «العصبية من يسارية شعبوية الى إسلام شعبوي، ومن شيخ شباب الحارة إلى زعيم ضد حارة أخرى هي منطقة بعل محسن».
أمّا سبيتي، فقدّم بحثاً عن «حرب الشوارع بين عصابات الشباب في منطقة الشيّاح عام 1975». سرد سبيتي تاريخ نشوء العنف في ما بات يُعرف اليوم بالضاحية الجنوبية، كفهم تاريخي للصراع بين «حيّ الغندور الذي كان معظم سكّانه جنوبيّين انضم معظم أبنائهم إلى فصائل الأحزاب اليسارية خلال الحرب» وحيّ المصبغة «الذي كان معظم سكّانه بقاعيين وانضم شبابه إلى الفصائل الفلسطينية المدعومة من السوريين مثل منظمة الصاعقة». أمّا طرابلسي الذي عقّب على كلّ من المداخلتين، فقد رأى أن أبو سمرا قام بعمل ممتاز ربّما يستحق «دراسة مقارنة بين ضاحية طرابلس مثل باب التبانة والضاحية الجنوبية»، التي قد تسمح بفهم أكبر لدينامية عنف الضواحي في لبنان.


المنهج التفكيكي يستسلم أمام «الشائع»

طغى على مقاربات المتحدثين لمختلف المواضيع المنحى النخبوي، والأكاديمي الجاف. وفيما كان من المفترض أن تفكّك المداخلات والمحاضرات المجتمع في تحليلها له، فإنّها اعتمدت، في معظمها، التقسيم الاجتماعي السائد، وفق منهجية موحّدة، تتعامل معه كتجمّع طوائف، بعيداً عن أيّ تحليل طبقي لأنّ «لبنان ليس لديه طبقات اجتماعية» كما جزم البروفّسور سمير خلف، مدير مركز الأبحاث السلوكية.