القاهرة ــ ليلى أرمانوالله أنا قلت أقصر الشر وأركب عربة السيدات في المترو. وقد كان. لن أتكلم عن تجربتي فيها، ولن أجعل المترو صورة مصغرة عن الحياة أضع داخلها «كوكتيلاً» من الشخصيات. لا لأن الحديث عن ذلك أصبح مستهلكاً، بل لأن هناك أشياء في حياة الأفراد يُستحب أن يحتفظوا بها لأنفسهم، بدلاً من أن يقتلوها بالكتابة عنها. المهم، دخل علينا رجل متشح بثياب شديدة السواد، أخرس ومتسول، يطلب «حسنة» بطريقة ابتزازية للغاية، مطلقاً تلك الهمهمات المتعارف عليها لدى المصابين بالبكم.
إلى أن توقف المترو فجأة في إحدى المحطات، ففقد الرجل توازنه وسقط أرضاً. حاولت فتاتان مساعدته، فيما هزّ الجميع رؤوسهم في شفقة وأسى للحالة الإنسانية الجليلة... إلخ. ولدهشتي، وجدتني أعلن الشفقة بدوري، بل تماديت في ذلك، بأن همست للجالسين بقربي «ياحرام». استعاد الرجل توازنه ونهض، مستغلاً الموقف أحسن استغلال، إذ تمشى يمدّ يده للسيدات اللواتي أكرمنه. جاء دوري، فطأطأت رأسي، «قال يعني» أنني لا أقوى على مواجهة الحاجة الإنسانية وجهاً لوجه، وهو أمر سيزيد حتماً من أسهمي في عيون المرافقات.
أنا لا أكترث للمتسولين. وأرى أن جزءاً كبيراً من ملل العالم يفرّغ في ابتزاز الآخرين، إما بمشاعر وطنية، أو إنسانية، أو أخوية. لكن، في الحقيقة، إنّ السبب في إبدائي لأحاسيس الشفقة كان أنني كنت قد خلعت الحجاب عن رأسي فور استقلالي العربة، ما أثار استهجان البعض. ولأنني لم أقوَ على مواجهة النظرات والغمزات، فقد جاءني هذا الموقف على طبق من فضة. فالناس، عندما يرون موقفاً ما غير متوافق مع توجهاتهم واقتناعاتهم ومع الشائع من الأخلاقيات، يتوقعون من مقترفه القيام بما هو أسوأ منه بعد، فيتربصون به. حاولت اللعب على هذه النقطة، كأنني أقول: نعم أنا خلعت الحجاب، لكن ليس بالضروري أن أكون فتاة سوء. في داخلي مشاعر رحمة. في داخلي مشاعر إنسانية يمكن أن تغفروا بها ما استهجنتموه من قبل. طلبت منهم فقط أن يقطعوا خيط التوقعات بالشر الممتد على طول تراثهم الاجتماعي السلوكي. قمت بذلك، فغدوت بدوري ابتزازية ونصابة مثل المتسول الذي أنقذني.