عائلته بعيدة عن الفنّ، لكنّه التقط «لوثته» في حارات تونس ومهرجانها السينمائي الشهير. في بولونيا درس السينما، وهي لا تزال حلمه الأغلى، لكنّه ارتمى في أحضان التلفزيون ليحقق نحاجاته المعروفة، ويسهم في نهضة الدراما السوريّة، و... يحصد أوّل جائزة «آيمي» عربيّة

إيمان الجابر
للأقدار ترتيباتها المدهشة التي تجعل حلمنا أحياناً على مرمى حجر. نراه في قلبنا، يسكننا ونطارده، وكلَّما اقتربنا من القبض عليه، انزلق من بين أيدينا. هذه حال المخرج شوقي الماجري مع حلمه الكبير: السينما. حلم يطارده منذ أدرك أنّه ليس ممثلاً، بل مؤلف سينمائيّ. ليس كاتب سيناريو، بل مؤلف للفيلم السينمائي، يُخرجه من روحه وعالمه، عالم أندريه تاركوفسكي، فديريكو فيلليني، أكيرا كيروساوا، وإنغمار برغمان. «أحب الانتماء إليهم ولا أدّعي أنني مثلهم. أعود إلى أفلام تاركوفسكي تماماً كما أعود إلى قراءة شكسبير، ماركيز، تولستوي، ودستويفسكي. أحب رؤية أفلامهم، وأرى أنها تخصّني كثيراً».
دراسة السينما مكلفة، والمعاهد المهمَّة في العالم قليلة. «لماذا لا أتعلّم الإيطالية وأذهب إلى روما... هناك معهد مجّاني»، هكذا حدّث الشاب شوقي الماجري نفسه. الطالب الجامعي، كان يدرس علم الاجتماع، في انتظار فرصة أفضل، حين قدّمت «أيام قرطاج السينمائية» تظاهرة خاصة بالسينما البولونية: «عشرة أفلام بولونيّة شاهدتها دفعة واحدة، ووقعت في غرام تلك السينما. سحرتني لخصوصيتها الشديدة. أفلام تشبه مبدعيها، خرجت من أرواحهم، تخصهم كالولد الذي يخرج من رحم أمه، كم يكون جميلاً وكم يخصها». صار شوقي يحلم ليل نهار بدراسة الفنّ السابع.
بعد سنة واحدة، وقّعت تونس وبولونيا اتفاق تعاون وتبادل ثقافي، وقدّمت بولونيا منحتين لدراسة السينما، حصد شوقي إحداهما. بقي عليه اجتياز امتحان القبول في «المعهد الوطني للسينما والمسرح والتلفزيون في وودج» أحد أهم معاهد السينما في أوروبا. «تعالي شوفيني وقتها»، يقولها بلهجته التونسية المطعّمة بالشامية، وبريق يلمع في عينيه وهو يستعيد تلك اللحظات. «أهمَّ ما حدث لي في حياتي، لقد قبضت على حلمي. كنَّا ننجز أفلاماً حقيقية بكاميرا 35 ملم، وأتيحت لنا إمكانات هائلة غير متوافرة في الكثير من معاهد العالم».
لكنّ خريج وودج عاد إلى الشرق ليصنع شهرته، ويحقق نجاحاته، في مجال آخر غير السينما، وربما اعتبره كثيرون مجالاً «معادياً» لها: التلفزيون الذي من خلاله برز الماجري وفرض حضوره عربياً وعالميّاً، وصولاً إلى جائزة «آيمي» عن مسلسل «الاجتياح» (2007) الذي كتبه وليد سيف، وكان أول مسلسل عربي ينال جائزة أفضل مسلسل أجنبي... «لم أكن أتخيَّل العمل في التلفزيون. كلُّ شيء فيه مختلف. في البداية، كنت مرعوباً منه، ولم يكن هناك خيار آخر. بعد عودتي من بولونيا، قمت بمحاولات مستميتة، لكنني لم أنجز إلا فيلماً روائياً قصيراً هو «مملكة الصول»». تجربته التلفزيونية الأولى في الدراما السورية، «تاج من شوك»، قدمها إليه النجم السوري أيمن زيدان عام 1998، لتتوالى الأعمال التي لم تحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ربما بسبب أسلوبه السينمائي الخاص. الصورة عنده معنية بالتفاصيل: الإضاءة، الـ «إخراج»، طريقة أداء الممثلين، التشكيل داخل المشهد، الديكور، كلّها إضافات كانت جديدة على جمهور الدراما، غير المعنيّ بها عادةً. لكنّ ذلك لم يحبط الرجل العنيد في ملاحقة أحلامه.
صحيح أن العمل في التلفزيون لم يكن مشروعه، لكنّه تعاطى معه بجدية وحوّله جزءاً حقيقيّاً من مشروعه السينمائي: «أن أعمل في التلفزيون وأبقى أنا نفسي أمر بالغ الصعوبة... الحمد لله صار الجمهور يهتم بهذا الأسلوب، يقوّمه ويحبه. المهم ألّا يقع الفنان في فخ البحث عن الجماهيرية السريعة واستسهال الوصول إليها». الماجري لم يستسهل الفن، ولم يعتبره مطية للوصول إلى المال والشهرة. وهو يرى أن «الفنان هو مَن يخدم فنه بصدق، لأجل الفن، لا من أجل الحصول على امتيازات».
علاقته بالفن بدأت في الثالثة عشرة، عندما مثَّل مع فرق الهواة التي كانت ترعاها النوادي الفنية المنتشرة في أرجاء تونس، وفي حارته الشعبية «باب السويقة». هذه الحارة خرَّجت أسماءً لامعة في المسرح والسينما والأدب والأغنية، وكانت البديل عن العائلة المتواضعة البعيدة عن الفن والثقافة. الوالد موظَّف بسيط، والأم ربة منزل، والإخوة ـــ خمس بنات وثلاثة شباب، أصغرهم شوقي ـــ يعملون في الخياطة. «عائلة من الناس البسطاء بأحلامهم العادية جدّاًَ»، يقول. «لا أعرف من أين جاءني الاهتمام بالفن، يبدو لي قدراً... أنا أؤمن بالأقدار».
اكتشف الألم في الثانية عشرة مع رحيل الوالد الذي كان «صغيره المدلّل». أمّا وعيه السياسي، فبدأ يتكوّن مع رؤيته الدماء تجري في شوارع تونس، نتيجة صراعات بين النقابات والسلطة أيام الحبيب بورقيبة. «كان هناك قتلى وجرحى في الشوارع، وكنت ذاهباً لشراء الخبز عندما أصابتني شظية صغيرة في ساقي». يومها، أدرك أنّ هناك ما يسمى شعباً وسلطة وحقوقاً مدنية، وأصبح يوم 26 كانون الثاني (يناير) 1978 تاريخاً لن ينساه.
هذه الصدمة كانت الطريق إلى الوعي السياسي: بدأ يهتمّ بما يجري في فلسطين ولبنان والعالم العربي والعالم: «كنّا كطلاب جامعة نخرج في تظاهرات ضد أي شيء، من أجل المطالبة بالأفضل». كان في عداد الذين ذهبوا إلى مدينة بنزرت، لاستقبال الفلسطينيين الذين خرجوا من بيروت في تلك الفترة المؤلمة من الحرب اللبنانيّة مطلع الثمانينيات. «كنَّا نملك كشباب وعياً شديداً لما يحدث في العالم العربي، وكانت ميولنا يسارية مع أنني لم أنتمِ إلى أي حزب». هذه المناخات جميعها أثّرت في تكوين شخصيته الدافئة، المتواضعة، الحساسة، المنحازة إلى إنسانية الإنسان أينما كان. انحيازه هذا يبدو جلياً في كل أعماله التي تفرد مساحات واسعة للتعبير عن كينونته: «الأرواح المهاجرة»(2001)، «عمر الخيام» (2002)، «أبناء الرشيد» (2006)، «أسمهان»(2008)، و«الاجتياح». عمله الأخير هذا قدَّم تناولاً معاصراً لأحداث وشخصيات حقيقية وواقعية، لبشر يتألَّمون ويموتون، بعيداً عن الشعاراتية التي غلبت بعض معظم ما قدِّم عن القضية الفلسطينية.
يعاتب بعض التونسيين شوقي الماجري رجل الأحلام الكبيرة على هواه الشامي. «أنا تونسي وهواي شامي»، هذا ما قاله خلال تسلُّمه جائزة «أدونيا» للإخراج عن مسلسل «أسمهان». أبناء وطنه الأمّ، يتوقون للعمل معه في عمل تونسي خالص، ويحزنون لأنه لم يتسلّم بنفسه جائزة «آيمي» ـــ التي تسلّمها المنتج طلال عدنان عوالمة ــــ «فهو صاحبها الحقيقي»، كما يقولون. تفخر به تونس تماماً كما تفخر به سوريا التي قدمت إليه جائزة «أدونيا» كسوري، وكواحد من المساهمين في تطوير الدراما السورية والعربية. لنقل إذاً إنّه مخرج عربي بامتياز.


5 تواريخ

1961
الولادة في تونس

1994
حصل على دبلوم الإخراج السينمائي من «المعهد الوطني للسينما والمسرح والتلفزيون في وودج» (بولونيا)

1998
أنجز أول عمل تلفزيوني في سوريا بعنوان «تاج من شوك»

2008
كان عام حصاد الجوائز عن مسلسلات «الاجتياح»، «أسمهان»، «أبو جعفر المنصور»

2009
يحقق حلمه بإنجاز فيلم «مملكة النمل» من تأليفه وخالد الطريفي، من إنتاج سوري ــ تونسي، ويستعد لإنجاز مسلسل «بغداد زمن الحب والموت» تأليف خالد خليفة