تنقسم المناطق اللبنانية إلى نحو 736 بلدية متفاوتة الحجم والقدرة والمساحة والإمكانات. وكل واحدة منها لديها خمسة موظفين بالحد الأدنى، هم كاتب البلدية ومحاسب وأمين صندوق وشرطي وجابي. لذلك، باستثناء بعض البلديات التي تمتلك قدرات مالية ولوجستية، ماذا عن البلديات الصغيرة الضعيفة الإمكانات التي تعتمد على تمويل الصندوق البلدي المستقل أو الهبات والمساعدات؟
عامر ملاعب
لم يكن سليم الشعار (30 عاماً)، الموظف في بلدية عيناب الواقعة في قضاء عاليه، يدرك أنه سيصل إلى لحظة يندم فيها على تقدّمه إلى تلك الوظيفة التي يشغلها منذ فترة. يطرق برأسه إلى الأرض حين يُسأل، كمن يتفكّر من أين يبدأ بشكواه. ثم يتنهّد وهو يقول مستذكراً: «يوم نجحنا في امتحانات مجلس الخدمة المدنية وانتسبنا إلى العمل في هذا القطاع، لم نكن ندرك أننا دخلنا في مستقبل مجهول، وأننا انضممنا إلى قطاع لا قيمة لنا فيه». ثم يفرد كفه معدّداً على أصابعه: «لا ضمانات ولا تأمين ولا تعويضات. يعني باختصار مستقبل غير مضمون. والأنكى من ذلك أننا لا ندري من نراجع في أمورنا، ولا ندري من يتحمّل مسؤولية مصيرنا وعائلاتنا، ونحن موظفون في بلديات صغيرة غير قادرة على تغطية نفقات أجورنا فكيف بزيادة الأجور أو تقديم الضمانات المطلوبة للموظف».
هذه الشكوى، هي نموذج لحال المئات من العائلات اللبنانية التي ارتبط أربابها بوظائف في بلديات صغيرة. وتعرف البلدية أنها «سلطة تشريعية مصغرة على رأسها سلطة تنفيذية إقليمية محلية». وأناط القانون في المادة 47 منه السلطة التقريرية بالمجلس البلدي، ومنح القانون هذه السلطة صلاحيات واسعة، عندما اعتبر أن كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة، في النطاق البلدي هو من اختصاص المجلس البلدي، وفي الواقع تقزَّمت أنشطة البلديات لتنحصر في شؤونٍ محدودة، وصنعت وهماً عاماً أن البلدية هي مجرد إدارة بروتوكولية مجرَّدة من الصلاحيات لا يعلم أعضاؤها ما هي المهمة الأساسية التي عليهم القيام بها، وهنا السؤال: أيّ جهاز يدير هذه الإدارات؟ وهل أعطي ما يستحق حتى نطالبه بالعمل؟.
عباس العريضي (32 عاماً)، موظف في بلدية بيصور (قضاء عاليه)، يصف واقع الموظفين بأنهم «مصابون بمرارة من يفقد الأمل في المستقبل، ولا يرى ضوءاً في نهاية النفق، ومطلوب منه يومياً المزيد من العمل».
ويضيف «يجب العمل على تحسين وضع موظفي قطاع البلديات وضمهم إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتحسين سلسلة الرتب والرواتب وتعويضات الصرف من الخدمة حتى يشعروا بمساواتهم مع سائر موظفي الدولة في الحقوق والواجبات، نحن نخاف من المرض والأمومة والشيخوخة».
وجاء قرار الحكومة بزيادة مبلغ 200 ألف ليرة لبنانية على الأجور كالصاعقة على البلديات التي أصلاً هي تقع في عجز دائم، منهم من قرّر رفع الأجور مباشرةً، ومنهم من انتظر قراراً رسمياً حتى ينفّذ.
وهنا مظهر من مظاهر الخلل في إدارة الجهاز البلدي، هل البلدية قطاع خاص أم عام؟ كيف يمكن وضع خطط تنموية فعلية حقيقية دون التركيز على دور هذه الأدوات على أرض الواقع وهي عصب الحياة؟
كمال ملاعب كاتب بلدية بيصور أوضح أن «موظفي البلدية هم عصب العمل التنموي وموجّهه الأساسي خاصةً خلال الفترة الأولى من انطلاق عمل المجالس البلدية، إذ حين ينجح مرشحون للبلدية وهم لا يمتلكون الحد الأدنى من خبرة العمل البلدي. في بعض البلديات يصل إلى المجلس أعضاء ورؤساء أقل كفاءة بأشواط من موظفي البلدية المتفرغين، ويبقى الموظفون في حالة إنسانية يرثى لها من حيث الخدمات، وخاصةً أولئك في البلديات الصغيرة التي لا تمتلك قدرات مالية.
هذا يدل على انعدام وفقدان الاستراتيجية التنموية الحقيقية لدى الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي أغفلت عصب الإنماء في القرى والأرياف وركّزت على العاصمة والمدن الكبيرة، وانتظار توزيعات الصندوق البلدي المستقل المشرف على تنفيذ أحكام قانون البلديات والمراسيم التنظيمية المتعلقة بتحديد أصول وقواعد توزيع أموال الصندوق البلدي المستقل، ويتساءلون عن سبب النزوح والهجرة من الريف؟».
أضاف «هناك مشروع قانون ضمان الموظفين منذ عام 1993 وقد حُوّل من الحكومة إلى مجلس النواب آنذاك وهو ينام في الأدراج ولم يناقش أو يقرّ، هل حقوقنا مهدورة إلى هذا الحد في وطننا؟ خلال مواسم الانتخابات النيابية والبلدية تنهار الوعود على كل الناس، ولكن في المضمون التنمية تحتاج إلى مشروع حقيقيّ وجدّي يأخذ بعين الاعتبار سواعد الآلاف ممن هم يعرفون ويخبرون معنى الإنماء على أرض الواقع».
«المدير العام للداخلية والبلديات»، في وزارة الداخلية خليل الحجل، أوضح لـ«الاخبار» أن «البلديات عليها أن تتحمّل كامل المسؤولية عن ذلك إذ كيف يمكن أن توظف دون أن تأخذ بعين الاعتبار كيفية تأمين هؤلاء وكل مستلزمات الموظف بحياة كريمة وضمانات صحية لازمة، وإذا ما خالفت البلديات هذه الشروط فإن الوزارة لا تملك حق فرض ذلك عليها، ولكن هناك الأطر القانونية والتشريعية التي تنظم عمل البلدية الإداري».
ومن جهة زيادة الأجور التي أقرتها الحكومة أوضح حجل «أن البلديات ملزمة بزيادة مبلغ الـ200 ألف ليرة لبنانية دون مناقشة».
في النهاية، فإن معالجة ملف البلديات بحاجة إلى خطة شاملة وتشريعات وقوانين وإعادة هيكلة العمل البلدي والإداري في لبنان برمتّه. وهذا يحتاج إلى مشاريع كبيرة وإعادة النظر في كل ما سارت عليه الأمور منذ إعلان دولة لبنان الكبير، حفاظاً على ما بقي من بضعة شبان ما زالوا في لبنان، ولم تتسنّ لهم الهجرة بعد.