نبيل عبدونزلت إلى محطة المترو قاصداً مكان التجمع لانطلاق التظاهرة. «سير القطارات سيكون متقطعاً ومضطرباً بسبب الحركة الاجتماعية»، تقول اليافطة. في الساحة بحر من الألوان وفضاء من الموسيقى وجماهير غفيرة.
سرنا في الموكب الهائل نصرخ ضد سياسات ساركوزي المجحفة الرامية إلى محو مكتسبات النضال العمالي. تمعّنت في وجوه المتظاهرين يوزعون الماء والكحول والابتسامات بعضهم لبعض، وسرت متمايلاً على أنغام الفرقة، تلفّني الألوان القوس قزحية التي تملأ الشوارع. رأيت طلاب مدارس عمرهم لا يتعدى 13 عاماً يوزعون بيانات ويهتفون دفاعاً عن مدارسهم الرسمية وعن أساتذتهم المهددين بفقدان عملهم. رأيت أولئك الذين يدافعون عن بيوتهم وعن رفاقهم النائمين في الشوارع صارخين بأن المأوى حق لا يساوم عليه! كانوا يصرخون جميعاً: كلنا موحدون! عمال القطاع العام والخاص، طلاب، مشردون، عاطلون عن العمل... كانوا كلهم صوتاً واحداً، لحناً واحداً ورقصة واحدة يطالبون بالعدالة الاجتماعية، يدافعون عن أعمالهم من الصرف التعسفي، عن حقهم في التقاعد اللائق والتعلم والمأوى والعيش بكرامة، يسمعون رسالتهم: الإنسان أهم من رأس المال!
تلك الرسالة التي عادت بعد عقود من الخفوت، فبدأت إرهاصاتها في اليونان، تلتها إيطاليا وإسبانيا إلى أن وصلت إلى باريس، متى ستعود إلى لبنان؟ قلت لنفسي محاولاً استعراض الواقع اللبناني:
حكومات متعاقبة تسمح لنفسها بانتهاك كل حقوق المواطن بحجة جذب الاستثمار: فالشاطئ والبحر ملك خاص، التعليم الرسمي والمجاني يتعرض لعملية تصفية مبرمجة لمصلحة التعليم الخاص المسموح لفئة معيّنة من الناس، القطاعات الرسمية تسير نحو مقصلة الخصخصة، الحد الأدنى للأجور لا يكفي لتأمين الحد الأدنى من الحياة اللائق، العمال حقوقهم مهدورة، وخاصة الأجانب منهم، مناطق بكاملها مهمشة اقتصادياً، تفقير وتهميش وعنصرية مبرمجة ضد اللاجئين الفلسطينيين، وعملية تدمير منظمة للبيئة. اليوم كنت فرنسياً أسير بين مئات الألوف من الفرنسيين، وأحلم بذلك اليوم الذي سأمشي فيه بين آلاف اللبنانيين وهم يصرخون مطالبين بحقوقهم المهدورة. يصرخون للتعليم المجاني والاستشفاء وضمان الشيخوخة، ولاستعادة شوارع سُلبت منهم وتحولت إلى مطاعم ومراكز تجارية، وبحر يخسر كل يوم من زرقته أمام مشاريع تغتصبه.