عصام نعمان *وحدهم السذّج تفاءلوا بقمة الدوحة قبل انعقادها، وسيثابرون بعد ارفضاضها على اختراع الأمل. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. عدم التفاؤل لا يعني بالضرورة احتراف التشاؤم. في السياسة عموماً، والسياسة العربية خصوصاً، لا مجال لفرزٍ قاطع بين أبيض وأسود. الرمادي هو، غالباً، اللون السائد، إلّا ما يتعلق بالخلافات، فقد بشّرنا الحكّام بأن لا خلاف على إدارتها إلى ما شاء الله.
غير أن ثمة ترقباً فضولياً انتاب بعض أهل الرأي إزاء ما ستكون عليه مواقف الحكام من تحدّيَين بارزين يواجهان قضايا العرب، هما وصول الديموقراطيين القائلين بالتغيير إلى سدة الرئاسة في أميركا بشخص باراك أوباما، ووصول اليمينيّين المتطرفين الرافضين صيغ التسوية المتداولة مع الفلسطينيين والعرب إلى السلطة بشخص بنيامين نتنياهو.
التحديان الأميركي والإسرائيلي يواجهان معظم قضايا العرب، لكنهما يؤثران، بالدرجة الأولى، في القضية المحورية: قضية فلسطين. هي المحك والمعيار، فماذا كانت النتيجة؟
ثمة أمل راود كثيرين بأن تنجح الفصائل الفلسطينية في التوصل إلى اتفاق بشأن معظم القضايا العالقة قبل قمة الدوحة. اتفاق كهذا من شأنه، في ظن هؤلاء، تعظيم وزن الفلسطينيين ودورهم في القمة. غير أن آخرين، وهم كثر أيضاً، لم يعلّقوا آمالاً واعدة على اتفاق سابق للقمة، بل إن المتشكّكين بينهم بصدق نيات معظم الحكام ورهانهم الدائم على الولايات المتحدة وجدوا مصلحة وازنة في اقتصار تمثيل فلسطين في القمة على محمود عباس. لماذا؟ لأنه عاجز بتمثيله المحدود عن إلزام الفلسطينيين بمواقف الحد الأدنى التي يبتغي الحكام اعتمادها، باسم الأمة، لتسويةٍ جائرة للصراع العربي ـــ الإسرائيلي. ماذا نجد في «إعلان الدوحة» عن فلسطين وشعبها ومقاومتها والموقف العربي الرسمي من المبادرات المتعلقة بها؟
ثمة، بادئ الأمر، «تحية وإجلال للشعب الفلسطيني في مقاومته الباسلة لمواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة». بعدها يأتي تأكيد لفظيّ لـِ«دعم صموده ومقاومته لهذا العدوان». كيف؟ لا توضيح لمضمون الدعم ولا إشارة، تالياً، لآلية تحقيقه.
إلى المطالبة (مطالبة من؟) بوقف الاعتداءات الإسرائيلية ورفع الحصار وفتح المعابر، يؤكد الحكام (لمن يؤكدون؟) «تحميل إسرائيل المسؤولية القانونية والمادية عما ارتكبته من جرائم حرب وانتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني»، وصولاً إلى مطالبة «المجتمع الدولي بملاحقة المسؤولين عن تلك الجرائم وإحالتهم على المحاكم الدولية».
ما دام الحكام قد حمّلوا إسرائيل المسؤولية «القانونية والمادية» عما ارتكبته من جرائم، فلماذا يطالبون المجتمع الدولي، ولا يطالبون أنفسهم والمتضررين من جرائم إسرائيل، بملاحقة المسؤولين عن تلك الجرائم؟ من هو «المجتمع الدولي» الذي يطالبونه بالملاحقة وممن يتألف؟ أليس بعض أعضائه مشاركاً لإسرائيل في جرائمها ومحرّضاً لها وداعماً؟ هل كثير على دول العرب وجامعتهم أن تنظّم وتموّل حملة لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائم الحرب كما فعلت إسرائيل في شأن الدفاع عن مسؤوليها وضباطها وجنودها المحتمل ملاحقتهم؟
أعرب أهل «إعلان الدوحة» عن «دعمنا للجهود العربية لإنهاء حالة الانقسام في الصف الوطني الفلسطيني». ثم لا يلبث هؤلاء أن يجدّدوا «دعمنا للسلطة الوطنية الفلسطينية»، أي للسيد محمود عباس وفريقه، و«للمجلس التشريعي المنتخب»، أي لحركة «حماس» وحلفائها. بهذه الصياغة الملتبسة لمضمون المصالحة الوطنية الفلسطينية المرتقبة يقترب الحكام العرب قليلاً من «حماس» من دون أن يبتعدوا عن عباس و«فتح». هذا أقصى ما يستطيعونه في هذه الآونة. ولولا صمود «حماس» وحلفائها في العدوان الأخير على غزة لكان الحكام قد كرّروا اللازمة المعهودة في دعم عباس من دون سائر الناس. صمود «حماس» وحلفائها يجد ترجمة حية له في مقاربة أهل الإعلان لمسألة الاستيطان. يقولون: «نطالب (يطالبون من؟) بوقف السياسات الإسرائيلية الأحادية الجانب (هل يقتضي أن تكون ثنائية؟) وإجراءات فرض الأمر الواقع على الأرض، بما في ذلك الوقف الفوري لكافة النشاطات الاستيطانية وإزالة جدار الفصل العنصري...». الحقيقة أن محمود عباس وحكومته طالبا، قبل القمة، بأن يكون وقف الاستيطان شرطاً لمعاودة المفاوضات، فلماذا غفل أهل الإعلان عن هذا الشرط الفاعل؟ هل لأن «العرب المعتدلين» لا يريدون تصعيب مهمة أوباما في إقناع نتنياهو بقبول «مبادرة السلام العربية» أساساً للتفاوض من دون شروط مسبّقة؟ حتى لو اشترط العرب والفلسطينيون وقف الاستيطان، ما مصير «المستوطنات العشوائية» التي كان رؤساء حكومات إسرائيل المتعاقبون قد وعدوا بإزالتها في مؤتمرات مدريد وشرم الشيخ وأنابوليس، لتتحوّل بعد ذلك إلى «مستوطنات قانونية» تحظى بدعم الحكومة ولا ترضى بالتفاوض عليها؟
يشجب «إعلان الدوحة» سياسة التعطيل والمماطلة الإسرائيلية، ويؤكد «ضرورة تحديد إطار زمني محدّد لقيام إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها تجاه عملية السلام (...) ولا سيما مبادرة السلام العربية». إزاء هذا الموقف، تنهض أسئلة عدة:
• من هي الجهة السياسية الصالحة لتحديد الإطار الزمني؟ هل هي القمة القادمة؟ هل هي حكومة الوفاق الفلسطينية؟ هل هي اللجنة الرباعية الدولية؟ هل هي الأمم المتحدة؟
• لماذا لم تقم قمة الدوحة نفسها بتحديد الإطار الزمني الذي أقرت بضرورته؟
• هل تحديد الإطار الزمني المطلوب هو لقبول نتنياهو بمبادرة السلام العربية أم هو مهلة للتفاوض في شأنها وإنهاؤه بما يؤمّن الوصول إلى تسوية مقبولة؟
• ما العمل إذا رفضت حكومة نتنياهو مبادرة السلام العربية أو الإطار الزمني المحدد لها؟ ما الموقف أو النهج المراد سلوكه؟
غير أن أكثر موضوعات «إعلان الدوحة» مدعاة للاستغراب والجدل ذلك الذي ينقض البند المتعلق بحق العودة في مبادرة السلام العربية. فقد أكد الإعلان «ضرورة التوصل إلى حلٍّ عادل للصراع العربي الإسرائيلي في إطار الشرعية الدولية (...) وإلى حل عادل ومتّفق عليه لمشكلات اللاجئين الفلسطينيين، ورفض كافة أشكال التوطين...». معنى هذا الكلام إسقاط حق العودة مع أنه في صلب الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وقرارات القمم العربية. أليس هذا تفريطاً بحقـوق الفلسطينيين الثابتة غير القابلة للتصرف؟ أليس هذا الكلام التفافاً على مبادرة السلام العربية وتجاوزاً لأحد بنودها بغية استرضاء نتنياهو وإغرائه بالعودة إلى طاولة المفاوضات؟
لا يجد محمود عباس وفريقه غضاضة في هذا البند من «إعلان الدوحة» المفرّط بحقوق الفلسطينيين بدليل أنه أُعلن في حضوره وبموافقته. لكن ماذا عن «حماس» وسائر فصائل المقاومة التي لم تشارك في قمة الدوحة؟ ماذا عن سوريا؟
بإمكان «حماس» وحليفاتها أن تعلن مجدّداً أنها غير معنية بهذا البند، وأنها متمسكة ببرنامجها الوطني وفي صلبه حق العودة. هل تسارع «حماس» وحليفاتها إلى تأكيد هذا الموقف أم أنها تكتفي بتجاهله لكونها لم تشارك في قمة الدوحة؟
بإمكان سوريا أيضاً أن تعاود تأكيد موقفها من مسألة حق العودة بتذكير الجميع بما قاله رئيسها بشار الأسد في قمة الدوحة من أن «رغبتنا في السلام هي الدافع لنا لدعم المقاومة، ودعمها واجب وطني وقومي وأخلاقي وهو الخيار الوحيد في غياب الخيارات الأخرى». وغنيّ عن البيان أن التمسك بالمقاومة يعني، أو يجب أن يعني، التمسك بكل أهدافها وفي مقدّمها حق العودة.
أجل، المقاومة هي الخيار الوحيد لـِ«حماس» وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية. غير أن ما يميّز هذه الفصائل جميعاً عن سوريا أن هذه الأخيرة دولة لا فصيل مقاوم. المقاومة تبقى مقاومة إلى أن تحقق أهدافها مهما طال الزمن. المقاومة ضد العدو المحتل يجب أن تكون التزاماً وعادةً، وكرامتها من الله والشعب النصر أو الشهادة.

* وزير سابق