تبدو حالة مزارعي التبغ مثيرةً للاهتمام، إذ نادراً ما ينكر أحدهم مشقّة زراعتها وقلّة مداخيلها، لكنّه أيضاً، لا يفكر أبداً في تركها. هنا، عيّنة من يوميّات مزارعي التبغ، منذ زراعة البذرة حتى تسليم المحصول
محمد محسن
مع بداية شهر نيسان، تستقبل التربة في جزء من أراضي المناطق الريفية، شتول التبغ. لا تجد بداً من التوجّه صوب الجنوب اللبناني، الذي اشتهر بهذه الزراعة حتى أصبحت شتلة التبغ رمزاً لصموده. وأنت تتجوّل، يصعب أن ترى الشتول في التربة الحمراء بوضوح، لكن حركة المزارعين والفتيات السمروات، اللاتي ارتدين قبعات القش، توحي بأن موسم الزراعة قد بدأ.
ينادي أبو حسن محسن الشاب اليافع الذي يقف خلفه، طالباً منه إحضار «المنطاع». تدرك هنا أنّك ستجد صعوبةً في تفسير المصطلحات الجنوبيّة المتداولة. يبتسم أبو حسن ويبدأ بشرح يوميّات المزارع، ولكن شرط «أن تركّز معي». ينقسم موسم التبغ إلى قسمين: الأوّل هو موسم الزراعة، ويبدأ في نيسان من كلّ عام، أمّا الثاني فهو موسم القطاف، ويبدأ في شهر تموز.
ينطلق ابن بلدة حاريص الجنوبيّة، من خبرة خمسة وعشرين عاماً، ليؤكدّ أن التربة الحمراء أو السوداء المليئة بالحديد، هي التربة الصالحة لزراعة هذه الشتلة، إذ أنها تملأ أوراق التبغ بالنيكوتين، وتزيد من وزنه. يستطرد أبو حسن في الحديث عن هذه الزراعة، لكنّه سرعان ما ينتقل من الشق التقني إلى الشق المعيشي.
هذه الزراعة مرة لكن تركها صعب. والسبب؟ يجيب الرجل الخمسيني بثقة «إنّها شتلة الروح بالنسبة للجنوبيين، ومورد رزقهم». يستدرك ويبدأ بشرح المصاعب التي يمرّ بها مزارعو التبغ في يوميّاتهم، فيبدأ من الأذية الجسديّة التي قد تسببها بعض مراحل الإنتاج. يرفع يديه مشيراً إلى بعض الخدوش الصغيرة الناتجة من احتكاك يديه مع «الميبر»، وهو «السيخ» الذي يشكّ به المزارعون أوراق التبغ بعد قطافها.
على الرغم من أنّ الشق التقني من عملية زراعة التبغ يجذبك نحو تفاصيله، غير أنّ الأجواء المرافقة لهذه الزراعة تبدو أكثر جاذبيةً. إذ يتخلّلها حديث مطوّل عن ليل لا ينتهي، تبدأ مع أواخره عمليّات قطاف الأوراق التي يحاول أبو حسن وصفها، فيقارن مقاسها بورقة الخس الكبيرة. هكذا، يطفئ مزارعو التبغ التلفاز باكراً، ويضبطون ساعتهم على موعد طلوع الفجر. يستفيقون، يلبسون ثيابهم الخاصة بالقطاف من قفّازات وقبعّات، ينيرون «لوكس الغاز» أو «الأنتريك» وباللغة الجنوبية «ييتسهّلوا عالقطيفة».
عند هذه اللحظة يبدأ نهارهم، يسابقون الشمس نحو حقول التبغ، قبل أن تجفّف قطرات الندى عن وجه أوراق الشتول، ليسهل عليهم قطافها، فهي تصبح قاسية إذا ما جففها دفء الشمس. ينهون قطافهم مع انتشار الضوء على الأراضي، ويعودون إلى بيوتهم منهكين قرابة الثامنة صباحاً. يتناول المزارعون وعائلاتهم فطوراً بلدياً، لتبدأ بعده عمليّات «الشك» في الميبر، وتستمر هذه العملية قرابة ست ساعات، تذهب بعدها أوراق التبغ نحو التجميع في الخيطان والتجفيف. ست ساعات لا يملأها احتكاك الأيادي الغضّة مع قساوة الميبر وصمغ التبغ فحسب، بل أيضاً مع وسائل تسلية يبتدعها المزارعون وعائلاتهم، ويسهل تعدادها: ميجانا، عتابا، راديو، أو نوادر قروية، بعد حديث لا بدّ منه عن الزيجات والطلاقات الحديثة العهد.
يأبى مزارعو التبغ أن يختموا حديثهم عن اليوميّات الطويلة، دون أن يتطرّقوا إلى يوميّاتهم الاقتصادية الصعبة. هنا تظهر مرارة الزراعة المنتشرة بكثرة في الجنوب. فما إن يحين موعد تسليم إنتاج التبغ إلى مؤسسة بيع التبغ والتنباك (الريجي)، بعد شهور طويلة من العناء والصبر في إعداده، حتى تخصم الشركة ثمن كيلوين اثنين من كل «بالة تبغ». والبالة هي الطرد الذي يملأه المزراعون بما يقارب 28 كيلو من أوراق التبغ، فإذا وصل إلى 30 كيلوغراماً أو أكثر، يصبح الفائض عن الوزن ملك الشركة مجاناً، وبحسب أبو حسن فإن «التاجر الشاطر» هو من يوزّع كل 25 كيلو في بالة، فيحرم الشركة من رزق غير مستحق. يكمل أبو حسن حديثه عن ضمان الأراضي، وهو ما يمكّن بعض الملّاك من استغلال رخصهم، وتمرير إنتاج بعض المزارعين ممّن لا يملكون رخص زراعة وبيع التبغ، شريطة أن يدفع هؤلاء المزارعون بدلاً مالياً، لتمرير إنتاجهم على ذمّة غيرهم. تكمن المشكلة في هذه العمليّة، في طريقة الحصول على الرخصة، التي تتلخّص بكلمة واحدة: واسطة. يشتكي من منافسة التبغ الأجنبي لمحصوله المحلي، مستبعداً الدخول في مقارنات الجودة، فـ«تبغنا هو الأفضل حتماً»، يقول مؤنباً قبل أن يضيف «ما تناقش يا صبي».
تنتهي يوميّات مزارع التبغ مع شتوله في كوانين من كل عام. لكنّه لا يعرف الراحة سوى لفترة زمنية قصيرة، تعود بعدها الدورة الزراعية الجديدة.