ميس الجبل ــ داني الأمينتسع سنوات مرّت على تحرير جزء كبير من الجنوب اللبناني، من دون أن تشهد القرى المحتلة عودة لافتة لأبنائها إلا في أيام العطل والمناسبات. وحدها بلدة ميس الجبل تنفرد بين رفاقها، لا فقط بالعدد الكبير للعائدين إليها، بل أيضاً بمحال المفروشات والأدوات المنزلية التي افتتحت كلّها على مرمى حجر من الحدود الإسرائيلية. هكذا، استطاعت البلدة التي تقع في قضاء مرجعيون أن تتحوّل إلى مركز تجاري للمنطقة، متخصّص في بيع الأدوات المنزلية والمفروشات على أنواعها.
اللافت أن تلك البلدة هي من أكثر البلدات محاذاةً للحدود، ومحاطة بعدد من المواقع الإسرائيلية والمستعمرات، ورغم ذلك تبدو اليوم من أكثر البلدات الجنوبية حيوية بفعل نشاط أبنائها التجّار. فيكاد لا يخلو منزل على الشارع العام للبلدة من محلّ تجاري شيّد تحته، معظمها مختصة ببيع المفروشات والأدوات المنزلية والسجاد. ولا يبدو الأمر غريباً بعدما ذاع صيت أبنائها في كل أنحاء لبنان، من مخازن قاروط الكبرى إلى قبلان للسجّاد وغيرهما. حتى إن البعض أتقن صناعة بعض أنواع المفروشات، ففتح المعامل الخاصة بذلك لتصبح ميس الجبل سوقاً للمفروشات، بعدما كان جميع أبنائها من المزارعين.
«أهل ميس قلبهم قوي على التجارة. بدأوا تجارتهم في بيروت في خمسينيات القرن الماضي، وقد شجّع بعضهم بعضاً إلى أن أصبحوا من أكبر تجّار الوطن»، يقول أبو سمير حمدان، أحد تجار البلدة القدامى. يذكر أبو سمير أنه بدأ تجارته برأسمال لا يتجاوز سبعة آلاف ليرة وهو يفوق اليوم 700 ألف دولار أميركي، «استطعت من خلال هذا العمل أن أبني ستة منازل لأولادي، كما يعتاش من تجارتي هذه، في بيع الأدوات المنزلية، أكثر من خمسين فرداً من أسرتي وأحفادي».
لا يعتمد تجّار ميس الجبل على زبائنهم من أبناء المنطقة في بنت جبيل ومرجعيون فحسب، بل بات لهم زبائن في صور وصيدا والبقاع وجزين. ويرى أبو سمير أن «التحرير في عام 2000 هو الذي أسهم في توسّع تجارة أبناء البلدة وزيادة زبائنهم»، لافتاً إلى أنه «رغم حرب تموز، فإن عدد المحال التجارية قد زاد، واستمرّ بناء المجمعات التجارية الكبيرة». يقول: «في الحرب الأخيرة تركنا كلّ بضاعتنا ورأسمالنا. لم يكن في جيبي إلا 25 مليون ليرة لإطعام جميع أفراد أسرتي، وعندما عدنا إلى البلدة لم يكن في جيبي إلا 100 ألف ليرة، لكن الله حمى بضاعتنا، رغم أن المنطقة المحيطة بالمحل قصفت».
ويعترف التجّار بأنهم عمدوا بعد الحرب إلى تشجيع الزبائن على الشراء، وذلك من خلال قيامهم بشراء البضائع الجديدة. كما قدّموا عروضاً تسمح بتبديلها في محاولة لإقناع المواطنين بأن الحرب بعيدة ولا مكان للخوف. يقول حمدان «ثابرت على شراء البضائع، ما جعل الزبائن يطمئنون إلى الوضع ورأوا أن الشغل ماشي».
هذه السياسة تؤكد «شطارة» أهالي ميس في التجارة. يقول أحد أبناء بلدة حولا المجاورة إنه افتتح محلاً له لبيع المفروشات في بلدة ميس الجبل، لكنّه أعلن الآن إفلاسه: «لا أستطيع منافسة أهل ميس، هم أقدر على إقناع الزبائن. الطفل الصغير في البلدة قادر على أن يجلب الزبائن لأبناء بلدته».

مغامرو الجيل القديم
يحلو لكبار السن في بلدة ميس الجبل تذكّر بدايات من يطلقون عليهم وصف «المغامرين» من الجيل القديم. هؤلاء نزحوا إلى بيروت منذ منتصف القرن الماضي وبدأوا تجارتهم ببيع بعض الأواني المنزلية سيراً على الأقدام، أو فتح «البسطات» في ساحة البرج أو منطقة «البسطة».
ويردد الأهالي اسم الحاج إبراهيم طه كأول من بدأ هذه التجارة. ويروي عنه التاجر عبد سعيد حمدان إنه كان يعطي بعض شبان البلدة البضاعة لتسويقها في بيروت، ثم يعودون آخر النهار ليقبضوا أجورهم حسب نسبة المبيع. «هؤلاء جميعاً أصبحوا تجاراً وأورثوا ذلك لأولادهم. أنا كنت واحداً منهم واليوم أصبح عندي معمل وغاليري».